يدفعون الثمن من حرياتهم وأعمارهم ونفسياتهم وسلوكياتهم؛ يعيشون حياة السجون بلا ذنب اقترفوه، وتوصد عليهم أبواب السجن الحديدية وكأنهم من أرباب السوابق العتاة، صودرت حريتهم وقمعت بدون وجه حق، تنظر إليهم وترى أعينهم تفيض براءة وأملاً، ويمكثون في مكان لا يراعى فيه عقلهم ولا سنهم ولا أبسط متطلبات براءتهم، إنهم الأطفال الذين يقضون مع أمهاتهم محكومية في السجن لحين أن يبلغوا سناً معينة ثم يتم إخراجهم ليندمجوا في مجتمع لا يرحم.. أو قد ينتقلون لسجن من نوع آخر وإن كانت به حرية.. فإذا لم يكن لهم حاضن فالملاجئ ودور الأيتام هي التي تتولاهم. الأم والأب مسجونان وبينت أم سالم مسجونة في قضية أخلاقية أن طفلتها ولدت معها داخل السجن وقالت "إن قضيتي لا تستدعي وجودي كل هذه المدة حيث إنهيت عاماً ونصف العام وأنتظر النظر في القضية"، وقالت "والد الطفلة ينتظر هو الآخر في سجن الرجال وطفلتنا مسجونة معنا بلا ذنب فعلته"، وتضيف "أعتقد أنه لا توجد قضية الآن خاصة بعد أن أخذت أقوال والد الطفلة الذي أبدى استعداده للزواج وأخذ عليه تعهد بذلك، ولكن إلى الآن لم يتم النظر في هذه القضية". وأشارت إلى أن ابنتها قاربت أن تكمل العامين وتخاف أن يتم حرمانها منها أو تسليمها إلى دور الأيتام ونحوها. فيما بينت أم عطية أنها مع طفلها بالسجن منذ ما يقارب 8 أشهر، وقالت "أخاف على ابني من أجواء السجن القاتلة، كما أنه ليس هناك برامج تساعد على أن يتخطى طفلها أزمة السجن"، متمنية أن تلحق بالسجن ملاعب ومراكز تعليم تهتم بأطفال السجينات وتمنحهم حقوقهم المتنوعة. الشروع في التمرد من جانبه قال مدير التعاون الدولي بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية الدكتور صقر بن محمد المقيد "إن السجن يظل مؤسسة عقابية سالبة للحرية، ويبقى أثره في النفس أمد الدهر، ولا يمكن إغفال النظرة المجتمعية للسجين حتى ولو كان مظلوماً، وحتى الأمثال الشعبية تصور السجين على أنه معول هدم في المجتمع". وأشار إلى أن المجتمع يعد الأسرة الكبيرة، وهذا المجتمع يتسم بعدم التسامح تجاه السجناء، والمجتمع السعودي بطبعه مجتمع معياري ينجذب كثيراً نحو الأصول والموروثات الدينية والاجتماعية، وكثيراً ما تغلف الأعراف بالدين ليكون من الصعوبة الالتفاف حولها، وهناك جمعية رعاية السجناء التي تعمل دونما كلل ولكن ليس من السهل عليها اختراق الجمود الاجتماعي بهذا الشأن. وأضاف أن الأطفال المرافقين لأمهاتهم في السجن سواء ولدوا في السجن أو غير ذلك فإنهم عرضة ل"الصدمات النفسية، ومن المحال أن ينسى هؤلاء ظروف السجن وما يولد لديهم العنف والعدوانية بعد خروجهم"، هذا فضلاً عن الصورة الذهنية الكامنة في الأذهان عن السجناء والسجينات وما يصاحبها من إجرام، وبين أن قضاء الأطفال فترة في السجن هو بمثابة "الشروع في التمرد على المجتمع بأعرافه وتقاليده، ولن ينظر هؤلاء الأطفال إلى قيم التسامح الموجودة في المجتمع، بل ينصب تفكيرهم خاصة عند البلوغ على الانتقام أو على الأقل تجاهل ثقافة الإنسانية والتسامح". وطالب الجهات المختصة بالبحث عن بدائل السجن، ومن المناسب إعداد دور مجهزة للإيواء لهذه الفئات تضم ملاعب أطفال ورياض أطفال، بحيث نخلق بيئة مختلفة تماماً عن بيئة السجن ضماناً لدمج هؤلاء الأطفال مع بقية شرائح المجتمع عند خروجهم من هذه الدور، وهذا يجب أن يقتصر على السجينات السعوديات فقط، مع ضرورة إعادة السجينات الأخريات إلى بلدانهن لقضاء مدة محكوميتهن هناك، وهذا ما يتم عادة في إطار ما يسمى بتسليم المجرمين، وهذه الدور يجب أن تتبعه وزارة الشؤون الاجتماعية مع توفير المؤهلين والمؤهلات من الباحثين الاجتماعيين والنفسيين ورجال الدين، إضافة إلى توفير الرعاية الصحية اللائقة، وإعداد برامج ثقافية اجتماعية تعرز لدى هؤلاء ثقافة المواطنة والولاء والانتماء. وأكد المقيد أن هناك دراسة كوبية أشارت إلى عدوانية الأطفال الذين قضوا مع أمهاتهم فترة في السجون ما دعا الحكومة الكوبية إلى إخضاعهم لبرامج تأهيلية تنقلهم من مرحلة الجمود والتحجر العاطفي، ومن ثم يندمج هؤلاء مع بقية نظرائهم في المجتمع، وهي طريقة مثلى للتسامي بالمجتمع بكافة أطيافه. سجن العاصمة نموذجي وأوضح المشرف على الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بمنطقة مكةالمكرمة الدكتور حسين الشريف أن فرع الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان رصد وجود حالات فردية لأطفال مع أمهاتهم السجينات من خلال زيارة عضوات الجمعية لسجن النساء سواء بسجن العاصمة المقدسة أو بسجن بريمان بجدة، وبين أن هناك تنظيماً معتمداً لمسألة تواجد هؤلاء الأطفال مع أمهاتهم، حيث "يظل الطفل لمدة سنتين مع والدته وبعد ذلك يخرج لمن يستطيع رعايته، وإذا لم يوجد له أحد يتم تسليمه لوزارة الشؤون الاجتماعية"، وقال "إن الجمعية تتدخل للتحقق من تقديم الرعاية الممكنة لهؤلاء الأطفال"، مشيراً إلى أن هناك "موازنة بين أمرين أولهما المرحلة التي يحتاج فيها الطفل للبقاء مع أمه، وهي فترة الحضانة المنصوص عليها شرعاً، ويجب أن يعطى الوقت الكافي فيها للأم والطفل في البقاء مع بعضهما، والأخرى هي عندما يصل الطفل إلى مرحلة سنية معينة، حيث يشترط أن ينشأ في بيئة صحية وسليمة، وهذا الأمر يتطلب وجود عوامل مشجعة وراعية لهذه المرحلة المعينة في السجن كالرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية والبيئة الجيدة، مؤكداً أنه بعد هذه المرحلة العمرية ليس من المستحسن بقاء الطفل في السجن". وأشار إلى أنه ليس هناك عدد معين للأطفال الذين مع أمهاتهم داخل السجون بل تم رصدهم من خلال الزيارة كحالات فردية. ونوه الشريف بأن سجن العاصمة المقدسة يعتبر نموذجياً من وجهة نظر الجمعية الوطنية؛ لأن هناك قسماً خاصاً للأمهات المسجونات اللاتي معهن أطفالهن، حيث يعتبر القسم وكأنه مدرسة نموذجية وخاصة من ناحية الألوان والفرش، وهذا شعور طيب بالنسبة للأطفال إضافة إلى أنه يخفف وطأة السجن على هؤلاء الأطفال. المصلحة الفضلى للطفل وطالب المستشار القانوني عضو برنامج الأمان الأسري الوطني أحمد إبراهيم المحيميد بتخصيص أماكن للسجينة الحامل أو المرضع؛ وذلك ب"إيجاد مكان خاص لإيوائهن مع أطفالهن خلافاً لبقية السجينات يضاهي المحيط الطبيعي، ويضمن للطفل الرعاية الصحية والنفسية، ويوفر له تنشئة سليمة وحماية كافية، ويكون ذلك عبر الحرص على تأثيث هذا المكان بشكل يخلو من أيّة إشارة إلى محيط السجن"، واعتبر أن ذلك تكريساً جديداً لرعاية الأسرة وشمولية حقوق الإنسان، ويعزز تكامل هذه المنظومة كما يكرّس مبدأ حماية المصلحة الفضلى للطفل التي أصبحت من أولويات اهتمام الشرع، وأضاف "أنه من ناحية السن القصوى لبقاء الطفل مصاحباً للأم السجينة يتم طيلة فترة الحمل أو الرضاعة وبانقضاء هذه المهلة أو المدة تواصل السجينة قضاء بقية العقاب المحكوم به في سجن النساء"، وتابع "وفقاً للإجراءات المعمول بها حالياً على مستوى العالم فإن قبول الأطفال المصاحبين لأمهاتهم السجينات يتم إلى حدود العام الثالث من عمرهم، وببلوغ هذه السن يقع تسليم الطفل إلى والده أو لمن تختاره الأم، غير أن هناك من يرى أن مدة 3 سنوات هذه تعتبر طويلة نسبياً يمكن أن تفرز تداعيات سلبية على نفسية الطفل، ويمكن أن تؤثّر في سلوكياته، حماية له من خطر التأثيرات السلبية لمحيط السجن علي تنشئته ونموه، تحديد فترة الرضاعة بسنة قابلة للتمديد لفترة أخرى لا تتجاوز بدورها السنة ووفقاً لما تقتضيه مصلحة الطفل". وبين أن الرعاية الصحية والنفسية الموجهة للأم و للرضيع "ينبغي أن تكون على أعلى مستوى وذلك بتسخير طبيب أطفال لضمان المتابعة اليومية بصحة الطفل، إلى جانب أطبّاء مختصين في طب النساء أو الطب العام بالنسبة للأم كذلك لضمان الرعاية الصحية المنتظمة لها في فترة الحمل والرضاعة، مع توفير كل المستلزمات من الأدوية، مع وجود أطباء متخصصين لتأمين الإحاطة النفسية والاجتماعية بالأم خاصة في فترة الحمل". السجن تغيير للمفاهيم وذكرت المقدم فوزية محمود الملا بشرطة دبي أنه من الطبيعي أن يؤثر السجن على وجود الأطفال مع أمهاتهم المحكومات لأن أعمار الأطفال أحياناً تكون في سن يدركون المكان ونظاميته. وبينت أن قوانين المؤسسات ونحو ذلك نصت على أن يكون الطفل مع أمه وكذلك حقوق الإنسان، مشيرة إلى أن "الطفل بعد العام الثاني يدرك ويحتاج لبيئة أخرى، غير السجن لأن السجن بالنسبة له مكان محكور ولا يأخذ الطفل فرصته في النمو بصورة طبيعية، لذلك من الطبيعي أن يؤثر على نفسية الطفل والأم"، وأضافت "أن الأم المسجونة بنفسها تحتاج إلى رعاية ولا تستطيع رعاية الطفل معها وخاصة إذا كانت مرتكبة جريمة قتل ونحو ذلك وعليها عقوبة، فيكون الطفل بمثابة عبء كبير جداً عليها". وقالت "إن كثيراً من الدول الأخرى أنظمتهم تختلف عن السجون العربية والخليجية حيث يكون لديهم مبانٍ خاصة بالأمهات والأطفال وسكن طبيعي وحجر إجباري على الأم بمعنى أنها مسجونة وسجنها بيتها، طالما أن هناك طفلاً بحيث لا يتغير الجو على الطفل ويستطيع العيش مثل بقية الأطفال حياة طبيعية"، مشيرة إلى أنه بانتقال الطفل إلى مكان آخر كالسجن وبيئة مختلفة واختلاطه مع أشخاص آخرين بالسجن وجنسيات مختلفة ونظامية السجن والساعات التي يقضيها بالسجن مع والداته فهذا طبيعي يؤثر على فكر الطفل ونفسيته. حقوق الأطفال وترى المدربة وأخصائية الطفولة رنيم حامد الحازمي بأن أطفال السجينات حكم عليهم بالسجن وحرموا من العيش بحرية كغيرهم من الأطفال لذنب لم يرتكبوه، ولأنه قدر عليهم أن تكون أمهاتهم سجينات، وقالت "ليس من العدل أن يكبر الطفل وينشأ في جو نفسي وصحي رديء بعيداً عن الإحساس بالجو الأسري الطبيعي وغير ذلك من الآثار السيئة المترتبة على هذا الأمر، سواء أثناء تواجده في السجن أو بعد خروجه منه عند إكماله لسنوات الرضاع". وأشارت الحازمي إلى فظاعة الأثر النفسي على طفل لم يكد يتجاوز العامين من عمره عندما يفصل عن حضن أمه لينتقل للعيش إما في كنف أسرته التي لم يعتد عليها لبعده عنها، أو إلى إحدى دور الخدمة الاجتماعية لتتولى رعايته غير والدته الحقيقية، فإنه سيعاني من قسوة الإحساس بالغربة وعدم ائتلافه للجو الجديد الذي فُرض عليه. وتأمل الحازمي أن يتم تطبيق بعض المقترحات لضمان حقوق هؤلاء الأطفال النفسية والصحية والتعليمية وغيرها من حقوق الطفل، ومنها "أن يكون في السجن نفسه حضانة يشرف عليها فريق تربوي متخصص ويكون من ضمن الفريق طبيبة أو ممرضة لتقديم الرعاية الصحية لهم، وأخصائيات نفسيات لتهيئتهم أولاً للانفصال عن أمهاتهم والانتقال للحياة خارج السجن، وكذلك حتى لا يتعرضون لصدمات نفسية ومشاكل في بناء شخصياتهم وعقبات في طريق تقبلهم للمجتمع الخارجي مستقبلاً"، مضيفة بأنه لابد من وضع خطط وآليات جادّة وتكوين فريق عمل متكامل للعناية بهذه الفئة المهمّشة والمحتاجة لرعاية في مختلف المجالات، أسوةً بغيرهم من الفئات المجتمعية حتى لا يحدث مالا يحمد عقباه في المستقبل، فبدلاً من أن نصنع فرداً فاعلاً في المجتمع قد نتسبب في صنع فرد حاقد على المجتمع وكاره له لفقدانه الجو العاطفي الذي يحتاجه أي طفل. لا تشترط موافقة ولي الأمر إلى ذلك، قال مساعد الناطق الإعلامي بالمديرية العامة للسجون النقيب عبدالله بن ناصر الحربي "إن آلية السماح للأطفال بالعيش مع أمهاتهم المحكومات بالسجن تسمح بأن يبقى الطفل مع المسجونة أو الموقوفة حتى يبلغ من العمر سنتين، فإذا لم ترغب في بقائه معها أو بلغ السن سلم لأبيه أو من له حق حضانته شرعاً بعد الأم، فإن لم يكن للطفل أب أو أقارب يكفلونه أودع إحدى مؤسسات رعاية الأطفال. وأبان عن الحد العمري المسموح به للطفل للبقاء مع والدته حتى يصبح عمره سنتين"، مضيفاً بأن عدد الأطفال الذين يعيشون مع أمهاتهم في سجون المملكة ليس بالكثير، وأنه لا يشترط موافقة ولي الأمر في أن يعيش الطفل مع والدته داخل السجن.