يقدم الروائي الصومالي نور الدين فارح في روايته "خرائط" دراسة عن ثقافة اليأس وغياب اليقين في فترة ما بعد الاستعمار، الرواية هي الأولى من ثلاثيته الثانية "دماء في الشمس" تليها "هدايا" ثم "أسرار" وجميعها استكمال لمشروعه الأدبي الذي لخصّه بعبارة "لكي يظلّ بلدي حيّاً بالكتابة عنه". حرص فارح على بناء حبكته داخل الفضاء الصومالي الغنيّ بالميثولوجيا المتوارثة والأساطير والبيئة الشعبية المتخمة بالموروث الشعري الشفهي. "خرائط" تحكي قصة "عسكر"، طفل استقبل العالم بيتم الأم والأب.. وحيدا كما لا ينبغي أن يكون، تتكفل برعايته الخادمة الإثيوبية "مصرا" في قرية غرب البلاد يسكنها الصوماليون ويحكمها الإثيوبيون، ينتقل بعد سنوات إلى مقديشو ليلتحق بالمدرسة ويقيم لدى خاله "هلال" وزوجته "صلادو"، وبعدها يتجدد لقاء "عسكر" مع "مصرا" في مقديشو وهي قادمة ضمن طوفان من اللاجئين بعد أن هُزمت المقاومة الصومالية واستعادت إثيوبيا تلك القرية، ما إن يتم اللقاء حتى يبدأ الفراق في نهاية مأساوية لمصرا. ليس في الرواية شخصيات هامشية، عسكر هو كل الأشخاص، القارئ بأسئلة العالم حول الوجود، الموت والحياة وكل التفاصيل بينهما، والوطن، والحب، والجنس، والألم، هو شخصية الصومالي التي يطلب منك نور الدين أن تتبناها، عسكر رمز محمل بدلالات الرواية، ثم يأتي خاله وزوجته حيث يمثلان النموذج المثالي كما يراه نور الدين، فهما متعلمان، هي مدرسة وهو محاضر في الجامعة، يكسر بهما جميع التقاليد فهي من تقود السيارة وتشتري حاجيات المنزل، يقضي هو معظم يومه في مكتبته بالبيت، هو من يطبخ الطعام.. لا يجيد القيادة ولا تجيد هي الطبخ، لا تستطيع الإنجاب فيقرر إجراء عملية كي لا ينجب هو أيضا. العم "قورح" هو الرجل التقليدي المزواج وكثير الطلاق، وحسن المعشر لين الجانب مع البدو الذين يمثلون غالبية الشعب. صديق عسكر الذي لا يحمل اسما في الرواية تعرض لحادثة اغتصاب، لكننا نراه بهذه النظرة الحزينة والشعور بالخزي كلما صادفناه بين صفحات الرواية، ربما يمثل الإنسان الذي ألغى وجوده المجتمع. الشيخ "عوضان" مدرس القرآن في القرية، هو صورة كاملة للنفاق الاجتماعي، تربطه علاقة غرامية مع مصرا وفي نهاية الرواية حين لا تطاوعه وتختار حب ابن قريتها الإثيوبي؛ يتهمها بخيانة المقاومة و"الأوجادين" ويتسبب بمصير مريع لها. نور الدين يستخدم شخصية عسكر ليتفرد بقصة مصرا، أثقلها بالدلالات حتى إنها لم تستطع أن ترافق الرواية حتى النهاية فماتت قبل الختام بصفحات، هي المرأة في الواقع الصومالي حيث الظروف السيئة التي أفقدتها الكثير من الكرامة الإنسانية، هي التعدد في مجتمع يحمل نظرة ضيقة عدائية تجاه الآخر، هي المدنيون الذين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ويضيعون في المنتصف.. يدفعون ثمن حروب تندلع باسمهم، هي الأم على الرغم من أنها لم تلد عسكر.. هي الحب والتضحية أيضا.. وكذلك الصراع بمعانيه الوطنية والشخصية بالنسبة لعسكر حيث عليه الاختيار بين الوطن وأمه بالتبني والتي صورت من الجميع على أنها خائنة. أحداث الرواية لا تفاجئ السياق، فمصرا تموت بشكل يمكن التنبؤ به، وفي المقابل نجد تقربا من صلادو إلى عسكر من خلال إشارتين عابرتين حملهما النص، إحداهما حين تفتش وبفضول متعلقاته، والثانية حديثها عنه وجاذبيته للنساء، بالإمكان اتهام الراوي على أنه يسعى للتخلص من حضور مصرا الثقيل في القصة. نور الدين يناقش قضيتين في الرواية، الأولى الوطن وحق الأوجادين (سكان الجزء الصومالي المحتل من إثيوبيا)، لا يشير إلى المقاومة الصومالية كثيرا ولكننا نرى بحكم أن الروائي ضحى بوالد عسكر في بداية السياق أنه يضعها كأحد القدرين لعسكر، إما إن يكون كاتبا ويدافع عن وطنه بقلمه، أو ينضم للمقاومة ليدافع عنه بسلاحه. القضية الثانية هي الإنسان الصومالي، حيث يعكس طبيعته للقارئ ليس على أنه (الآخر/ الغريب) وإنما كإنسان، يرغمك على مشاركته ألمه وأن تتبنى أفكاره، يستخدم ضمير المخاطب، فأنت من تستفسر عن أسئلة الوجود، وأنت الطفل الصومالي الذي كادت تقتله قنبلة لكن ما إن ينتهي دويها حتى يحث الخطى في حياته قدما. يستخدم نور الدين مقارنات بين الثقافة الصومالية والغربية ولا أثر لمقارنات مع ثقافة المنطقة المحيطة وربما يعود السبب إلى أنها كتبت بلغة القارئ الغربي إلا أن هذا لا ينتقص مطلقا من نجاحه في عرض نواحي الشخصية الصومالية. ذكر الخرائط لا يتكرر كثيرا، هي ترمز إلى الاستعمار الذي وضع حدودا غير واضحة وبصورة خاطئة وأثرت بعمق وعلى المدى الطويل في السياسة والاقتصاد والمجتمع الأفريقي، الاستعمار الذي ترك خلفه خطوطا بالحبر الجاف على ورقة وعلى إثر ذلك؛ نشبت حروب ومات الملايين. في الرواية عوالم كثيرة وحيوات لا تنتهي، أسئلة تخطو بقدم واحدة ومع هذا تسرقك.. تأخذك في رحلة حول الحياة وبين الدروب!