بين جمعة النزوح وجمعة العودة، أشهر من الترقب والاشتياق عاشها أهالي الخوبة بمحافظة الحرث التابعة لمنطقة جازان، وهم يتوقون لعناق الأرض التي أنبتتهم وفيها سجلوا ملاحم من البطولات لخدمة الوطن .. ففي 18 ذي القعدة 1430 كانت جمعة نزوح الأسر من منازلها في الخوبة، حيث تطلب الوضع العسكري، آنذاك، مغادرة الأسر حفاظا على أرواحهم من المتسللين المسلحين الذين اخترقوا الحدود، واستمر الوضع حتى تمكنت القوات المسلحة من تطهير تلك القرى من المتسللين؛ وبالأمس كانت جمعة العودة إلى قراهم وهجرهم وهم ينعمون بالأمن والأمان وتوافر الخدمات. جمعة العودة امتزجت الدموع بابتسامات الفرح، والزغاريد بابتهالات الحمد.. كانت زغاريد النساء تسبق أفواج الأهالي، وكانت الدموع تمسح غبار الوجع عن شوق الديار، وفتحت المساجد وصدحت مآذنها ب "الله أكبر"، واعتلى الخطباء المنابر في مشهد أبكى كل شيء. لبست الخوبة ثوبها الجديد وتعطرت بنفحات الكادي والفل، الكل كان يراقب دخول النازحين وعودتهم إلى منازلهم، استنفار أمني وخدمي، سبقه جولة لأمير منطقة جازان الأمير محمد بن ناصر، الأسبوع الماضي، ووقوفه على القرى، متفقداً مع مسؤولي القطاعات الحكومية الجوانب الخدمية والأمنية، ومؤكداً لأهالي الخوبة أن تعويضاتهم سوف تصلهم قريباً. مشاعر الأهالي فاطمة المسنة كانت ترفع يديها المرتعشتين بالحمد وتقول "أحمد الله أنني عدت لقريتي التي كنت أتمنى أن أرى ترابها قبل أن أموت، الحمد لله ونصر الله دولتنا، وحماها وحفظ الله الملك عبدالله والأمير سلطان والأمير نايف والأمير محمد بن ناصر والسعودية كلها". أما أحمد هزازي فقد نذر بأنه إن عاد إلى قريته أن يقوم بذبح 10 رؤوس من الأغنام، فيما نذر مواطن آخر بأن يزوج أبناءه جميعهم في قريتهم. وقال المواطن أحمد علي هزازي "57 عاما" من مدينة الحرث (الخوبة) "الآن شعرت بالحياة حينما شممت رائحة تراب قريتي بعد غيبة طويلة، كنا خلالها متشوقين للعودة بعد أن تحقق النصر المؤزر لقواتنا السعودية على العناصر المسلحة المعتدية على أراضينا، فالفرحة لا توصف مهما تحدثت، ولكن تحكيها لغة العيون، فأنا الآن في مزرعتي أعمل فيها بعد غيبة عنها دامت طويلا، فبيني وبينها عشق لا ينتهي. المواطن عبدالرحمن طراد "58 عاما" من قرية القرن يقول "لقد وفرت لنا الدولة مساكن فارهة في الفنادق والوحدات السكنية، وقدمت لنا المساعدات المالية لكن لم نجد فيها الراحة النفسية والسعادة التي نشعر بها حينما نكون في مساكننا في قرانا التي ولدنا بها ونشأنا فيها وترعرعنا على ترابها وألفنا طرقاتها والحياة فيها، الحمد لله عدنا إليها وعادت في نفوسنا الحياة"، وأشار طراد إلى معاناته مع تجهيز وترتيب مسكنه حيث يستأجر يوميا 4 عمال كل عامل أجرته 100 ريال، إضافة إلى متاعب الحصول على المياه التي لم تتوفر في مساكنهم مما يضطرهم لشراء صهاريج الماء بسعر 250 ريالا من محافظة أحد المسارحة. مرارة البعد المواطنة مريم أحمد هزازي "86 عاما" تقول "لم أعرف إلا قريتي طوال حياتي ولم أخرج منها ولكن أجبرتنا الظروف أن ننزح منها إلى مساكن وفرتها لنا الحكومة الرشيدة كنت أسكن بها وأنا مريضة لبعدي عن قريتي، ولم أتذوق طعم الحياة لأنني بعيدة عن بقري وغنمي، ولكن الآن عدت إليها وأصبحت في الهواء الطلق وتعافيت وذهب عني المرض". تلتقط المواطنة فاطمة بنت عيسى "78 عاما" الحديث وتقول "إن وجودي في قريتي وعودتي إليها هو الحياة بعينها، فلقد مرت علي شهور عصيبة وأنا أعاني مرارة الفراق، حرمت إشعال حطب "الميفا" الذي هو موقد أكلاتنا الشعبية من عيش خمير ومغشات وحنيذ، والآن أنا في قريتي مسقط رأسي أشم رائحة ترابها وشجرها وحيواناتها، فسعادتي لا توصف أبدا.. نعم هناك متاعب في تكاثر الزواحف والثعابين ولكنني أقوم بحرق الأشجار التي غطت كل شيء في المنزل لأطردها". اهتمام الإمارة وكيل إمارة منطقة جازان الدكتور عبدالله السويد أوضح أنه وبتوجيه من أمير المنطقة الأمير محمد بن ناصر قام بزيارة للحرث والتقى محافظها ومديري الجهات الحكومية بالمحافظة للعمل على توفير الخدمات وتهيئة المحافظة والقرى التابعة لها، وكان ذلك في شهر رجب، وسبق هذا اللقاء متابعات ومخاطبات من قبل أمير المنطقة مع ولاة الأمر بطلب الاستئذان للمواطنين النازحين بالعودة إلى قراهم، مشيرا إلى أن أمير المنطقة أعقب هذه الزيارة بزيارة مماثلة للاطمئنان على الوضع بعد إنهاء الترتيبات اللازمة للعودة. إكمال الترتيبات محافظ الحرث محمد الشمراني أكد أن العودة شملت 122 قرية، وفي مقدمتها مدينة الحرث (الخوبة) لافتا إلى أن هناك قرى واقعة في حرم الحدود السعودية اليمنية، لم تتم عودة أهاليها إليها، وقال لقد سبقت هذه العودة ترتيبات مع الجهات الحكومية لتأهيل المحافظة والقرى التابعة لها لاستقبال المواطنين النازحين، وإزالة كل الصعوبات التي تواجههم. تهيئة أمنية ووجه مدير شرطة منطقة جازان اللواء جميل بن عطية الرحيلي بتكثيف الدوريات في محافظة الحرث ودعم مركزها بالأفراد والآليات، والحفاظ على أمنها، ومتابعة بلاغات المواطنين أولا بأول، وعدم التساهل، إضافة إلى التعاون مع مشايخ القبائل في أي أمر يتعلق بالجانب الأمني بالقرى في محافظة الحرث. كما بين قائد قوة جازان اللواء حسين معلوي أن سلاح المهندسين قام بعمليات التمشيط لإبطال بقايا الحرب من مقذوفات أو ألغام، لتكون القرى والأودية والطرق سليمة ولا تمثل خطورة على المواطنين النازحين الذين عادوا يوم أمس إلى محافظة الحرث والقرى التابعة لها. تجهيز الحدائق من جهته أوضح رئيس بلدية الخوبة عبدالله جابر العلياني أن العمل اكتمل وتم تجهيز كل القرى وتنظيفها ونشر معدات البلدية وعمالها يوم أمس، إضافة إلى أن أمين جازان المهندس عبدالله القرني دعم بلدية الخوبة بالمعدات والأفراد ونظافة القرى، وأضاف أنه تم تجهيز جميع الحدائق والمتنزهات لاستقبال العائدين، مشيرا إلى أن يوم أمس كان يوم عمل استثنائي عملت فيه جميع القطاعات. تعويضات مجزية وأوضح مدير الدفاع المدني بمنطقة جازان العميد حسن القفيلي أن القرى مهيأة لاستقبال أهاليها، وأن الدفاع المدني قام بواجبه من حيث وضع الترتيبات اللازمة للعودة بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة، مشيرا إلى أنه تم تشكيل لجان لتقدير وحصر الأضرار والتلفيات التي تعرض لها المواطنون النازحون من قرى الشريط الحدودي بمحافظة الحرث بمنطقة جازان لصرف تعويضات لهم على منازلهم ومتاجرهم ومزارعهم ومركباتهم وجميع ممتلكاتهم لتعينهم على إصلاح مساكنهم للعودة إليها، ووجه أمير المنطقة بالإسراع والتعجيل في صرف تعويضاتهم على ممتلكاتهم المتضررة نظرا لحاجتهم الماسة والملحة لتلك التعويضات، مشيرا إلى أن تصنيف الأضرار كان على ثلاث فئات هي، فئة أولى وتشمل الأضرار البسيطة وقدر لها مبلغ 40 ألف ريال، وفئة ثانية وتشمل الأضرار المتوسطة وقدر لها مبلغ 70 ألف ريال، وفئة ثالثة وتشمل الأضرار الكبيرة وقدر لها مبلغ 100 ألف ريال.