عبدالله الغامدي لم يعد فن تفريغ الجيوب من المال قائما بشكل أساسي على الموروث التقليدي والمتعارف عليه، كمحلات المأكل والمشرب وبقالة الحي وسوق الخضار ومغسلة الملابس وصالون الحلاقة! التنافس غير الصحي -من منظور تجاري- حول هذه المهن جعل كثيرا من صغار التجار يفكرون مليّا قبل القيام باستثمار جزء أو كل السيولة التي يملكونها، ليغامروا في حيّ ما بفتح محل حلاقة مثلا، لا يقدم لهم ربحا مُرضيا لينتهي بهم الحال بأسوأ سيناريوهين: تأجير المحل خفية على عمالة وافدة أو تقبيل المحل، وبدء رحلة الحراجات الشعبية بحثا عن مشتر للمقصات والأمشاط والكرسي الأحمر وبقية الأغراض التعيسة! أفكار الثمانين والتسعين من القرن المنصرم يا سادة لم تعد في تقديري سوى محاولات بائسة لطلب الثراء الموهوم، أو لتقديم مصروف جيب في أحسن الأحوال. الأحاديث التي كنت أسمعها أنا ومن هم أكبر أو أصغر مني قليلا، على شكل نصائح آباء وأجداد، حول قيمة التجارة التقليدية لم تعد بحال مقبولة اليوم، إلا لمن أراد أن يكون بنصائح الماضي شقيّا! كنت أقرأ قبل فترة عن أفكار في ريادة الأعمال entrepreneurship، والتي تعرف ب«وجود قدرة وإرادة لدى الفرد لأن يقدم ويطور وينظم عملا فيه مغامرة من أجل تحقيق ربح مجزٍ». فوقعت عيني على مجموعة أفكار خلاقة، خِلت معها أن أصحاب الأفكار من جنس الجنّ لا من جنس البشر، الأمر الذي جعلني أتقاسم غرابتها وجاذبيتها مع من عرفت ومن لم أعرف. ففي سويسرا مثلا، قامت فكرة ريادية على مبدأ بسيط، وهو «تأجير البقر»، وتم توجيه الفكرة لأبناء المدن الذين يصعب عليهم أن يجدوا بقرة في شوارع جنيف، أو وسط زيوريخ، وتمحورت الفكرة حول إحضار البقرة إلى أولئك الأشخاص، ليقوموا بحلبها، وتعلم طريقة استخراج الجبن أو الزبدة، أو حتى نزع الدسم من ذلك الحليب. بطبيعة الحال مشروع يأتي بالبقرة إلى المدينة، ويقدم في جملة ما يقدم حليبا طازجا وتدريبا مفيدا وهروبا ذهنيا من المدنية المكتظة إلى الريف الجميل، هو مشروع جدير بالتجربة، ويستحق دفع بعض المال، لا سيما حين نتذكر أن كل الأسرة ستستمتع بهذه الخبرة، وتنتظر البقرة الحلوب كخير غائب منتظر! فكرة ريادية أخرى قامت على مبدأ معاكس، ووجهت نحو الريف بدل المدينة، وهذه الفكرة تم استخدامها لتوفير الوقود حول مركز جوجل في كاليفورنيا، إذ لاحظ أحد المتبصرين والمبصرين أن جوجل يستخدم آلات قص العشب بشكل كبير لجزّه وتشذيبه، فتقدم بفكرة إحضار قطيع من الماعز ليقوم بأكل العشب المنعش والمرتوي، وبهذا يستفيد من جهتين: إحداها أخذ أموال من أصحاب قطعان الماعز نظير إطعامها، والثاني: من جوجل نظير تشذيب وترتيب الهكتارات من الأراضي المحيطة به. فِعْلًا، عقول لا تعرف الاستسلام، وأفكار تخلق المال من الهلام! فكرة ريادية أخيرة، ربما تروق لزميلاتنا في قطاع التدريب النسوي، قامت أيضا على مبدأ الحميمية والحنية مع الدمى والألعاب. صاحب هذه الفكرة تقدم بفكرة أسماها «مستشفى الدمى»، وذلك بعد أن لاحظ أن كثيرا من البنات والنساء -على حد سواء- يحتفظن بألعابهن القديمة كالعرائس والدببة وما شابههما، ويتأثرن حين تعرك السنون تلك الدمى، فيحتفظن بما تبقى منها كنوع من الولاء والوفاء لأيام الزمن الجميل. لذلك، فقد كانت فكرة «مشفى الدمى» أشبه بورشة متكاملة لصيانة وإصلاح وإعادة تأهيل ألعاب وعرائس مثل Barbie dolls و Teddy bears، وغيرهما من الألعاب التي تمثل عمقا سحيقا من خزائن وخزانات الذكريات والحنين والجمال لكل طفلة وطفل! قلت بعد أن تأملت هذه الأفكار الريادية، وقرأت كثيرا عن غيرها، إن الشرط الأساسي لكل رائد أعمال أن يكون «مجنونا». الجنون يصنع الاختلاف في كل شيء. ما نعتقد أنها فكرة لا يقبلها العقل اليوم، ربما تتحول إلى تساؤل غدا مفاده: أين غاب عنها العقل كل هذا الوقت؟ وعليه، فإنني دوما أشجع من حولي من أسرتي أو طلابي على التفكير خارج إطار المألوف، والذهاب بأفكارهم إلى أقصى مدى، ثم العودة إلينا بمشاهدات تلك الرحلة، لتشكل طاولة نقاش ومرتكز أفكار وآمال لغد مختلف يملؤه الإبداع والاختلاف والتفرد، متذكرين جميعا أن أمهات المخترعات لم تخرج في الغالب عن إطارين كبيرين: جنون صار عقلا، أو حلم صار واقعا.