يختتم الدكتور سلطان محمد النعيمي كتابه «الفكر السياسي الإيراني» الصادر عن دار مدارك للنشر، بتناول الرؤية الإيرانية في نظرتها الإقليمية والدولية والتي تنطلق من خلال مرتكزات لا يزال تأثيرها قائم على صانع القرار في إيران، والذي يتخذ قراراته ويصدر تصريحاته فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، والتعامل مع القرارات الدولية والأحداث السياسية، من مرتكزات وقيم أساسية تتلاقى فيما بينها تارة، ويصبح بعضها محددا للآخر تارة أخرى. وتأتي عوامل من قبيل الموروث الثقافي والتاريخي والديني والوزن الإقليمي والدولي للدول لتلعب دورها في ظهور تلك المرتكزات. فالسياسة الخارجية عبارة عن حلقات متصلة ببعضها البعض تجمع العديد من العوامل التي تؤثر من جانبها على السياسة الخارجية. وأهم المرتكزات المؤثرة في صنع القرار السياسي في إيران، هي: أ مرتكز القومية الفارسية والاعتزاز بها إن الموروث الثقافي والتاريخي الذي تزخر به إيران جعل من القومية الفارسية والاعتزاز بها مرتكزا مهما ليس لصانع القرار السياسي في إيران فحسب، وإنما يمتد ليطال حتى القوى المعارضة للنظام في إيران ضمانا لكسب تأييد الشعب الإيراني، فإيران واحدة من أكبر الإمبراطوريات القديمة وهو أمر ينعكس على السياسة الخارجية الإيراني، التي تغلب القومية الفارسية على ما سواها.
ب مرتكز المصلحة
كسائر بقية الدول تأتي المصلحة في المقام الأول عند اتخاذ القرار. فالقيم الأخلاقية والشعارات الرنانة لا تجد لها موطئ قدم في غالب الأحيان عند اصطدامها بالمصلحة. فالعلاقات الدولية قائمة على مبدأ المصلحة الذي يأتي كمرتكز مهم عند صانع القرار السياسي في إيران، ويأتي التأويل بدوره هنا ليسوق المبررات ويخلق السبل لتحقيق المصلحة دون أن تصطدم مباشرة بالمرتكزات الأخرى. ج البعد الديني من منطلق كونها الدولة الشيعية الوحيدة والقائدة -كما ترى- للمذهب الشيعي، أصبح هذا الأخير ونصرة المنضوين تحت مظلته مرتكزا لصانع القرار السياسي في إيران وأصبح هذا البعد جزءا أصيلا في الدستور الإيراني، غير أن هذا المرتكز يتلون في واقع الأمر بتلون المصلحة ومعطياتها لدى النظام الإيراني. هذا الأمر لا يعني بأي حال من الأحوال انتزاع الصفة المذهبية والدينية لهذا النظام، غير أن نصرة من يدينون للمذهب الشيعي لا تعني أن يكون هذا النظام إلى جانب هذا المرتكز في حال كان للمصلحة دورها التي لا تتماشى معه. تصدير الثورة انطلقت إيران من مرتكزاتها السابقة لتصدير الثورة وتأسيس القوى والتنظيمات المسلحة الموالية للنظام الإيراني في المنطقة، وتصريحات المسؤولين الإيرانيين تؤكد الازدواجية في السياسة الخارجية الإيرانية، ففي الوقت الذي أشار فيه الرئيس الإيراني حسن روحاني أنه يسعى إلى خلق أجواء إيجابية وحسن جوار وخاصة مع دول الخليج والمملكة العربية السعودية تحديدا، يعود ليتهم هذه الأخيرة بالإضافة إلى دولة الإمارات بدعمهما لنظام صدام حسين السابق في حربه ضد إيران، وهو أمر يتنافى مع دعوات روحاني لقادة الحرس لتجنب التصريحات التي من شأنها التأثير على مساعي حكومته نحو الانفتاح تجاه دول الخليج والسعودية تحديدا. على الجانب الآخر وفي الوقت الذي يرسل فيها ملك البحرين الملك حمد بن عيسى آل خليفة رسالة تهنئة للرئيس الإيراني بمناسبة ذكرى انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، يقوم مرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي باستقبال مجموعة من المعارضة البحرينية حيث وصفهم بالأقوياء ودعاهم إلى الصمود. هذا الأمر يعطي مؤشرا على ظهور تلك الازدواجية والتباين في السياسة الخارجية الإيرانية. وهو ما يقودنا بدوره إلى التساؤل الآخر والمتمثل في أين يقع ذلك التباين والازدواجية؟ بداية يتحرك النظام الإيراني باتجاه السياسات الخارجية وفق رؤية المرشد وتوجهاته بحكم الصلاحيات التي يتمتع بها وفقا للدستور الإيراني. وتأتي بقية مؤسسات النظام لتلعب دورها أيضا في تلك السياسة ولكن تبقى وفق أطر منظومة النظام الإيراني التي تدور جميعها حول المركز والمتمثل في المرشد الإيراني الذي يضطلع بصلاحية رسم السياسات العامة للدولة ومنها السياسة الخارجية. ولذا فإنه من الحري بنا ضرورة قراءة إيران بالطريقة الصحيحة لمعرفة مخرجاتها نظرا لنظامها وما يحتويه من مؤسسات تتداخل صلاحياتها وتحركاتها في الكثير من الجوانب. هذه القراءة ستفضي إلى إدراك أن وزارة الخارجية الإيرانية ليست كنظيراتها في الدول الأخرى. ففي الوقت الذي تخرج هذه الوزارة بتصريح يكون قد سبقها أو تزامن معها تصريحات أخرى تتناول الأمر نفسه من مؤسسات أخرى في إيران. وبالتالي فإن وصول حكومة معتدلة أو إصلاحية وظهور تغيرات واضحة في تصريحات هذه الحكومة لتنتقل من المستوى المتشدد إلى المعتدل، لا يعني بالضرورة تحول جذري في السياسة الخارجية الإيرانية. كما أن هناك العديد من المؤسسات في إيران ما تقوم بالدور الخارجي ناهيك عن أن وزارة الخارجية نفسها لها خصوصيتها في ذلك. فالرئيس الإيراني هو المعني باختيار وزير الخارجية، إلا أن من يتولى الوزارات السيادية، لابد وأن يأتي بمباركة المرشد وبالتالي يصبح لمكتب المرشد وإدارته السياسية، دورها في رسم السياسات، ويصبح لزاما على وزارة الخارجية التنسيق مع مكتب المرشد. هذا الأمر دفع بالرئيس الإيراني السابق «أحمدي نجاد» إلى أن يخطو خطوات سعيا منه إلى توسيع صلاحيات الرئيس وتأثيره على وزارة الخارجية حيث قام بتعيين مبعوثين خاصين له وذلك للالتفاف على تضييق الخناق على توجهاته التي تلقى وزارة الخارجية صعوبة في تحويلها إلى جانب عملي نظرا لارتباطها بالسياسة العامة للنظام. يأتي المجلس الأعلى للأمن القومي ليلعب دوره أيضا في هذا الشأن فلقد شهد العراق زيارات متعددة من قبل الأمين العام السابق لهذا المجلس «سعيد جليلي» وكذلك الأمين العام الحالي «علي شمخاني» الذي يبدو وأنه لعب دوره في إقناع رئيس الوزراء العراقي السابق «نوري المالكي» بالتخلي عن رئاسة الوزراء. كما كان لشمخاني زياراته الخاصة كذلك للبنان وغيرها الأمر الذي لا يدع مجالا للشك في أن لهذا المجلس دوره أيضا في السياسة الخارجية. أما فيلق القدس الذراع الخارجي للحرس الثوري، فيلعب دوره هو الآخر على مستوى السياسة الخارجية، وذلك من خلال دعم التنظيمات المسلحة في المنطقة سواء أكان الدور دعما ماديا أو عسكريا. وبالتالي فإنه يمكن القول كما أشار «جهانبخش ايزدي» أن هناك عوامل حاكمة على السياسة الخارجية الإيرانية منها ما تصطبغ بصبغة رسمية وأخرى غير رسمية.
ازدواجية واضحة في السياسة الخارجية تتجلى ازدواجية النظام الإيراني في سياسته الخارجية في أمرين، فإحجام النظام الإيراني عن التدخل في الشؤون الداخلية للأمم الأخرى، يقابله مبادئ من قبيل دعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين، حيث «يستند النظام الإيراني لحديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، وكذلك حديث للإمام علي بن أبي طالب كونوا للظالم خصما وللمظلوم عونا، ولذا فالمادة التاسعة تؤكد على أن هذا الأمر هو مبدأ وأساس للحكومة الإسلامية، وبالتالي مساندة المسلمين والدفاع عن حقوقهم وهو ما يتجلى بصورة واضحة في السياسة الخارجية لإيران». ومن الأدوات التي تشكل بالفعل معضلة في تعاطي النظام الإيراني مع الخارج وتباين وازدواجية الثورة في مقابل الدولة، هي توظيف مفاهيم من قبيل «نظرية أم القرى» و«المهدوية» وكذلك «تصدير الثورة» و«الحكومة الإسلامية»، وهي بحق مثال صريح لتلك الازدواجية التي تدفع بالحرس الثوري وفيلق القدس للاندفاع خارج الحدود الإيرانية مستندين في ذلك بالعديد من تصريحات الخميني وأهمية تصدير الثورة باعتبار هذا الأمر من أساسيات الحكومة الإسلامية، ف«لتحقيق الأهداف الإسلامية الكبرى فإن الثورة الإيرانية للشعب الإيراني تمر بخمس مراحل: الثورة الإسلامية، ثم النظام الإسلامي، ثم الحكومة الإسلامية، ثم الدولة الإسلامية وأخيرا الحضارة الإسلامية العالمية.. ونحن الآن في المرحلة الثالثة». هذه الازدواجية لم يكن لها أن تنتفي بوفاة الخميني، بل لا تزال أصداؤها باقية لدى النظام الإيراني الحالي للاستمرار للوصول إلى الهدف الرئيس لبقية الأنظمة المتعاقبة على إيران وهو نقل تلك المخيلة إلى واقع بالوسائل المتاحة. فبعد وفاة الخميني وإعادة النظر في الدستور، اجتمع أعضاء المجلس الأعلى للأمن القومي برئاسة هاشمي رفسنجاني وتوصلوا إلى نتيجة مفادها، أن نظام الجمهورية الإسلامية في إيران لن يدوم بدون توسيع نطاق الثورة الإسلامية خارج حدود إيران، ووفقا لذلك سار راسمو السياسة الخارجية الإيرانية باتجاه وضع إيران بوصفها «أم للأوطان الإسلامية» لكي تتمكن من أن تصبح مركزا وقاعدة للحركات الإسلامية والتي يتوجب دعمها ماديا ومعنويا، وبالتالي الوصول إلى السلطة وهو ما سيحقق ديمومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ولما كان الهدف باقيا فقد استمر ذلك الفكر وظهر جليا في تصريحات المسؤولين الإيرانيين، حيث يقول الرئيس السابق «أحمدي نجاد» إن الهدف الرئيس للنظام الإيراني هو نشر التشيع في العالم ورفع راية المهدي المنتظر. وفي هذه السياق يقول قائد الحرس الثوري «إننا بصدد تصدير خبرة الباسيج، ويتوجب علينا تصدير الدين الإسلامي»، والقارئ بتمعن لهذا التصريح يدرك جيدا أن المقصود بنشر الإسلام هنا هو نشر التشيع وليس إدخال من هم من غير المسلمين إلى الإسلام. ومن بين الشواهد التي تؤكد على تلك الازدواجية هو الدور الواضح لفيلق القدس التابع للحرس الثوري في تدخلاته في المنطقة، وهو ما ظهر واضحا من خلال الزيارات المستمرة لقائده قاسم سليماني للعراق في الفترة الأخيرة والتي نقلت التواجد الإيراني في العراق من صورة إنكار له، إلى سعي للتأكيد على ذلك من خلال انتشار صور قائد فيلق القدس في عدد من المدن العراقية واعتراف رسمي بتواجد عناصر من العسكريين الإيرانيين في العراق بقصد دعم الجيش العراقي في مواجهة تنظيم داعش. ويأتي استدعاء قاسم سليماني لمجلس الخبراء في إيران لإطلاع هذا المجلس على الأحوال في العالم الإسلامي وبالذات مصر وسورية والعراق ولبنان، دليلا جليا على تلك الازدواجية في السياسة الخارجية. فقد كان حري بهذا المجلس استدعاء وزير الخارجية الإيراني أو من ينوب عنه من وزارة الخارجية بوصفها هي المسؤول الأول عن ذلك. اختلاف الأدوار تحت إطار نيابة الإمام الغائب استقاء شرعية السلطة في إيران من نائب الإمام الغائب (الفقيه) فرض على مختلف الاتجاهات تطويع فكرها لتتماشى مع تلك الشرعية. فحتى الأنظمة الملكية التي تعاقبت على إيران بعد الإسلام لم تستطع أن تنسلخ من ذلك الموروث الديني في المذهب الشيعي، وراحت تتودد للمؤسسة الدينية في سبيل نيل ذلك المسوغ الشرعي لسلطتها. غير أن ذلك التقارب لم يكن بلا قيد، فقد ظل قائما على تمكين تلك السلطة. وبعد إقرار نظام الجمهورية الإسلامية في إيران عقب الثورة، أصبح هذا النظام خاضعا تماما لنظرية ولاية الفقيه، بحيث أصبحت جميع مؤسساته تستقي شرعيتها وقانونيتها من تلك النظرية. كما أثبتت الأحداث، وبشهادة شخصيات من داخل النظام نفسه، أن دور «المصلحة» و «الوصول إلى السلطة» من عدمه يلعب دورا في قراءة مختلف الاتجاهات لهذه النظرية. ويتجلى بوضوح «دور المصلحة» في مواقف الاتجاهات من نظرية ولاية الفقيه المطلقة المعمول بها في إيران، والتحولات الجذرية في رؤى تلك الاتجاهات عند وصولها إلى السلطة وابتعادها عنها، ويظهر هذا بوضوح داخل «قوى التيار الديني الحاكم». فعلى سبيل المثال أدت سيطرة قوى اليسار الديني الحاكم على السلطة في السنوات الأولى من عمر الثورة، وتأييد الخميني لها، إلى تلاقي مصلحة هذا التيار مع تأييد ولاية الفقيه المطلقة للخميني، باعتبار أن ذلك سيضمن لها الاستمرارية والتأييد من أعلى سلطة في النظام الإيراني والاستفادة من التأييد الشعبي القوي للخميني والامتثال لأوامره، فرفضت هذه القوى تقنين السلطة المطلقة للخميني أو تأطيرها بالدستور، في حين طالب اليمين الديني - نظرا لارتباطه الوثيق بالبازار ورفضه سيطرة الدولة على الاقتصاد والرؤى الاشتراكية التي جاء بها اليسار الديني والتي لا تتماشى ورؤاه الاقتصادية - بتقنين سلطة الولي الفقيه وتأطيرها بالدستور، وعارض ولاية الفقيه المطلقة للإمام الخميني التي ساعدت اليسار الديني الحاكم في تنفيذ رؤاه الاقتصادية. ولكن وبعد خروج اليسار الديني من السلطة ووفاة الخميني ووصول خامنئي إلى منصب المرشد العام للثورة فرضت تلك المستجدات واقعا جديدا جاء على خلاف المواقف السابقة لتلك القوى انطلاقا من مصلحتها، الأمر الذي دفع بتلك القوى إلى إعادة النظر في مواقفها السابقة، وحدث نوع من تبادل الأدوار بين اليمين الديني واليسار الديني. غير أن إعادة النظر تلك لم تكن خروجا عن أطر الفكر السياسي الشيعي، حيث تبنى اليسار الديني - بعد إعادة النظر تجاه مواقفه من الفكر الشيعي - نظريات سياسية تؤكد أصالة الإمامة في السلطة، وفي المقابل تعطي للشعب دورا في هذه السلطة. فنادوا بسلطة تستقي شرعيتها من السلطة الدينية والسلطة الشعبية، لتقترب الرؤى الفكرية السياسية للسلطة عند هذا الاتجاه مع رؤى الاتجاه الثالث - القوى الوطنية والوطنية الدينية - الذي ما انفك يؤكد الدور الفعال للدين، وأن إعادة النظر في نظرية ولاية الفقيه ورفض حكومة الفقهاء لا يعني التمرد على الدين ورفض تشريعاته، إنما السبب وراء رفض الحكومة الفقهية يكمن في أن مثل هذه الحكومة تؤدي إلى حرمان فئة عريضة من الشعب الإيراني من المشاركة في السلطة، في حين بدأ اليمين إعادة قراءته لولاية الفقيه المطلقة وأخذ يدافع عنها بعد أن كان ينادي بالمولوية الإرشادية في العقد الأول للثورة.