حفل التراث العربي بأنواع شتى من التأليف، فلم يدع المؤلفون موضوعا لم يكتبوا فيه، فقد ألفوا في الموضوعات الجادة في دقائق العلوم والفنون ولم يغفلوا الموضوعات الطريفة، كما خصوا كل موضوع بتأليف، وكل مسألة بمصنف، وكل فن بكتاب أو رسالة، في جد أو هزل. كتاب "نَكت الهيمان في نُكت العميان" في أخبار ونوادر وتراجم العميان ممن فقدوا نعمة البصر في مقتبل العمر أو آخره، لمؤلفه صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي المتوفى سنة 764ه، وصاحب المؤلفات الكبيرة والكثيرة، ذكر في المقدمات فوائد لغوية وأدبية وصرفية وفلسفية وشرعية، مع ذكر ما جاء في ذلك من الأخبار والآثار كقصة الأقرع والأبرص والأعمى التي وردت في صحيحي البخاري ومسلم.
من أهم ما في الكتاب الإشارة إلى أن برايل صاحب الكتابة البارزة الخاصة بالعميان، والذي تدرس طريقته باللمس في أنحاء المعمورة لم يكن سابقاً في ذلك، وإنما سبقه في ذلك أحد العلماء المسلمين هو علي بن أحمد بن يوسف الحنبلي، الأمدي العابر المتوفى بعد سنة 712ه، حيث كان إذا اشترى كتابا بشيء معلوم أخذ قطعة ورق خفيفة وفتل منها فتيلة لطيفة وصنعها حرفا أو أكثر من حروف الهجاء لعدد ثمن الكتاب بحسب الجمل، ثم يلصق ذلك على طرف جلد الكتاب من داخل، ويلصق فوقه ورقة لتتأبد، فإذا شذ عن ذهنه كمية ثمن كتاب ما من كتبه، مس الموضع الذي علمه في ذلك الكتاب بيده، فيعرف ثمنه، وقد نشر الكتاب بعناية أحمد زكي بك عام 1329ه، 1911م.
أنشد الجاحظ لابن عباس رضي الله عنهما: إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي لساني وسمعي منهما نور قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل وفي فهمي صارم كالسيف مأثور قال بشار بن برد يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا: بمن لا ترى تهذي فقلت لهم الأذن كالعين توفي القلب ما كانا قال أبو العز مظفر بن إبراهيم الضرير: قالوا عشقت وأنت أعمى ظبيا كحيل الطرف ألمى وحلاه ما عاينتها فنقول قد شغلتك وهما وخياله بك في المنام فما أطاف ولا ألما من أين أرسل للفؤاد وأنت لم تنظره سهما فأجبت إني موسوي العشق إنصاتا وفهما أعلام أصيبوا بالعمى العباس بن عبدالمطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي استسقى المطر عام الرمادة لما أقحط الناس وكان ضريرا فسقى الله البلاد والعباد. علي بن أحمد بن سيده اللغوي الضرير، صاحب التصانيف الكثيرة في اللغة، قال أبو عمر الطلمنكي: دخلت مرسية فتشبث بي أهلها ليسمعوا عليّ الغريب المصنف، فقلت لهم: انظروا من يقرأ، وأنا أمسك كتابي، فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده، فقرأه من أوله إلى آخره حفظا من قلبه فتعجبت منه. قال بعضهم لبشار: ما أذهب الله كريمتي مؤمن إلا عوضه الله خيرا منهما، فبم عوضك؟ قال: بعدم رؤية الثقلاء مثلك. قال المتوكل يوما: لولا ذهاب بصر "أبي العيناء" لنادمته، فبلغه ذلك فقال: قولوا له إن أعفيتني من قراءة نقوش الخواتيم ورؤية الأهلة صلحت لغير ذلك، فبلغ المتوكل ذلك فضحك ونادمه. قال بعضهم: نزلت في بعض القرى وخرجت في الليل لحاجة فإذا أنا بأعمى على عاتقه جرة ومعه سراج، فقلت له: يا هذا، أنت والليل والنهار عندك سواء فما معنى السراج، فقال: يا فضولي، حملته معي لأعمى البصيرة مثلك، يستضيء به فلا يعثر بي فأقع أنا وتنكسر الجرة. دخل يزيد بن منصور الحميري على بشار وهو واقف بين يدي المهدي ينشد شعرا، فلما فرغ من إنشاده أقبل يزيد بن منصور على بشار، وقال له: ما صناعتك يا شيخ؟ فقال له: أثقب اللؤلؤ، فضحك المهدي وقال لبشار: أغرب ويلك، أتتنادر على خالي؟ قال: وما أصنع به؟ يرى شيخا أعمى قائما ينشد الخليفة مديحا، يقول له: ما صناعتك؟