يرى الأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس فرانك بيتيفيل أن سعي المنظمات الدولية لتقليص التفاوتات واللامساواة بين الدول، وبين الأفراد كذلك، أثمر عن حصيلة متباينة. وفي بحثه الذي حمل عنوان "حصيلة متباينة للمنظمات الدولية" الذي نشر في كتاب "عالم اللامساواة" الذي أصدرته مؤسسة الفكر العربي عن ترجمة لكتاب "أوضاع العالم 2016" يؤكد بيتيفيل أن "المساواة هي مبدأ يهيكل بنية نظام المنظمات الدولية ونشاطها وقانونها الأساسي"، فالمساواة كقيمة، تشكل في الواقع، جزءاً من المدماك المعياري لهذه المنظمات، كما أن أخذ هذه المنظمات بها، وتبنيها لها، ودعوتها إليها، يزيد من شرعيتها على المسرح الدولي. وهي لا تعتزم في الواقع، الإسهام في تقليص التفاوتات بين الدول فحسب، بل بين الأفراد أيضاً، سواء لجهة التفاوتات السياسية أو لجهة التفاوتات بين النساء والرجال، أو التفاوتات الاجتماعية - الاقتصادية.
الأممالمتحدة تضم كامل دول العالم وتساوي بين أصواتها تعلن شرعة منظمة الأممالمتحدة منذ كلماتها الأولى، إيمان أعضائها ب "المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء، وكذلك بين الأمم كبيرها وصغيرها"، وتضيف أن "المنظمة مؤسسة على مبدأ المساواة بين جميع أعضائها". غير أن الأممالمتحدة أنشأت عام 1945، حين كان قسم مهم من العالم في آسيا وإفريقيا لا يزال يعيش تحت وصاية استعمارية، ولذا كان ينبغي للشعوب المستعمَرَة أن تنتزع استقلالها لتستطيع ادعاء الوصول إلى المساواة في السيادة في الأممالمتحدة. أوائل الدول التي انبثقت من إنهاء الاستعمار بعد عام 1945 حصلت على عضوية المنظمة ودخلت الجمعية العامة، وراحت تستخدمها لتأييد قضية الاستقلالات، ولذا فالأممالمتحدة تبنت إعلانا حول استقلال البلدان والشعوب المستعمَرَة عام 1960، وأنشأت "اللجنة الخاصة لإنهاء الاستعمار" عام 1961، كما تشكلت مجموعة ال77 على هامش مؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية عام 1964. والواقع أن الرسالة الكونية الشاملة للمنظمات المتعددة الأطراف، باتت تُترجم التطلع إلى معاملة الدول على نحوٍ متساوٍ، وهكذا، فإن الأممالمتحدة تضم اليوم تقريباً كامل دول العالم (193 دولة) كما هو حال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي (يضمان 188 دولة عضواً)، وللجمعية العامة للأمم المتحدة أهلية عامة للتداول حول الشؤون العالمية كافة، إذ تُعتبر بمثابة التجسيد المؤسسي للجماعة الدولية، وتمثل كل عضو من المنظمة على أساس المساواة، حيث كل دولة تساوي صوتا واحدا، مهما كانت قدراتها أو جبروتها ووزنها الديموجرافي.
العدالة الدولية تحاكم المسؤولين عن جرائم تطال أعدادا كبيرة من الضحايا تعمل المنظمات الدولية على ترويج المساواة بين مواطني العالم وتشجيعها، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تبنته الدول الأعضاء في عمومية الأممالمتحدة عام 1948، طرح مسألة «الاعتراف بالكرامة التي هي جزء لا يتجزأ من شخصية أعضاء الأسرة البشرية كافة، وبحقوقهم الثابتة المتساوية التي لا تقبل المساس، والتي تشكل أساس الحرية والعدالة والسلام في العالم". كما إن المادة الأولى الشهيرة من الإعلان تؤكد كذلك أن "البشر كافة يولدون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق". بالاستناد إلى هذه المبادئ عملت منظمة الأممالمتحدة ضد أشكال التمييز كافة خلال تاريخها، يشهد على ذلك إقرار الجمعية العامة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري عام 1965، وباسم مبادئ المساواة كذلك تعبأت منظمة الأممالمتحدة وتجندت في مطلع سنوات 1960 وفي مطلع سنوات 1990، ضد نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا. بعد نهاية الحرب الباردة، جاءت فكرة "الأمن الإنساني" التي أطلقتها الأممالمتحدة، جاعلة من الفرد الموضوع المركزي للأمن منظوراً إليه كأمان متعدد الأبعاد (مادي، جسدي، غذائي، صحي، اقتصادي، سياسي، بيئي)، وهي تحمل كذلك تصورا مساواتيا للحق في التفتح الفردي. وبموازاة ذلك، فإن تنامي العدالة الجزائية الدولية في سنوات 1990 - 2000 (المحاكم الجزائية أو العدلية الخاصة بما كان يعرف بيوغوسلافيا، والخاصة برواندا، والمحكمة الجنائية الدولية التي أقرها نظام روما الأساسي) تسهم كذلك في زيادة مصداقية مبدأ الحق المتساوي في العدالة لضحايا الجرائم التي تقع على جماهير كبيرة من الضحايا، وتقديم المسؤولين عن هذه الجرائم، حتى ولو كانوا رؤساء دول، ومحاكمتهم على قدم المساواة مع المنفذين والمرتكبين المباشرين.
محاربة ختان الإناث والزواج الإكراهي عملت المنظمات الدولية لأجل تقدم قضية المساواة بين الرجال والنساء، فمنذ عام 1946 أنشأ المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، لجنة مختصة بأوضاع المرأة، ومنذ عام 1951 أقر الميثاق رقم 100، حول المساواة في الأجر بين الرجال والنساء، في إطار منظمة العمل الدولية. وفي عام 1979 تبنت الجمعية العامة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وبمبادرة منها نظمت الأممالمتحدة مؤتمرات عالمية كبرى حول حقوق النساء، تهدف إلى جعل مختلف التمييزات والتفاوتات التي تعاني النساء منها في العالم، تتراجع. وفي عام 2010، وفي إطار إصلاح الأممالمتحدة، قررت الجمعية العامة دمج الهيئات الأربع التي كانت موجودة قبل ذلك التاريخ، في مؤسسة واحدة بما يجعلها أكثر ظهوراً وأيسر رؤية، هي «منظمة الأممالمتحدة - نساء». وسعت مفوضية الأممالمتحدة العليا للاجئين، ومعها عدة منظمات إنسانية غير حكومية، إلى الرد بخاصة على العنف الجنسي الذي تتعرض له النساء في النزاعات المسلّحة، وكذلك على أشكال من الممارسات الاجتماعية الواسعة الانتشار في بعض البلدان، مثل ختان النساء أو الزواج الإكراهي. وتظل قضية النساء ذات أولوية للمنظمات الدولية، إذ إن النساء لا زلن يعانين من اللّامساواة في المداخيل، وفي الحصول على التربية وعلى الاستخدام، ويتعرضن لكثير من التمييز والعنف - ولاسيما الزوجي - وعلى مستوى عال في العالم كله. كما تعمل المنظمات الدولية الناشطة في حقل "التنمية"، مثل الأممالمتحدة، البنك الدولي، منظمة الزراعة الدولية، الاتحاد الأوروبي.. إلخ - على ترويج المساواة الاجتماعية والاقتصادية، ولذا أنشأت الجمعية الدولية للتنمية في داخل البنك الدولي 1960، وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي 1965، ووضعت "أهداف الألفية للتنمية" التي أقرت عام 2005، ووقع استحقاقها العام الماضي. غير أن اللافت أن المساواة المنشودة غيرت من طبيعتها. فمن سنوات 1960 إلى سنوات 1980 باتت دواعي المساواة ومقتضياتها تهدف إلى تقليص الفارق بين بلدان العالم الثالث الفقيرة والبلدان الغنية، ولذا ركزت أهداف ألفية التنمية - ولاسيما ما ورد فيها حول «إزالة الفقر المدقع والجوع، وتأمين التربية الابتدائية للجميع، وترقية المساواة بين الجنسين واستقلالية النساء وتقليص وفيات الأطفال" على إعادة الصياغة الإجمالية لمفاهيم التنمية كمشروعٍ لتقليص اللاّمساواة البشرية على المستوى العالمي. النقد يحاصر اليونان ويغض الطرف عن أميركا الدول ليست متساوية في السيادة بمواجهة أفعال المنظمات الدولية وأعمالها، فصندوق النقد الدولي المسارع أبداً إلى «تصويب » ميزان المدفوعات في البلدان السائرة في طريق النمو، أو في اليونان مثلاً، لم يمارس يوماً مثل حق النظر هذا إزاء ما تأتي به الولاياتالمتحدة من «منكرات » مالية ونقدية، من أزمة البترو - دولار في سنوات الستين، إلى أزمة الرهون العقارية غير المضمونة اليوم. وتمارس المنظمات الدولية، على وجه أعم، أشكالاً متنوعة من انتهاك سيادة الدول التي توصف ب"الهشّة" أو السريعة العطب، أو الدول "الفاشلة " أو المنهارة التي تتفتت سيادتها في سياق نزاعٍ ما (الصومال، مالي، جمهورية إفريقيا الوسطى، جنوب السودان، الكونجو الديمقراطية). إدارة المؤسسات المالية الدولية لاقتصادات بعض الدول، أو الحقن المتواصل بالمساعدات الإنسانية لبعض آخر، أو عمليات الأممالمتحدة لفرض السلام، إجراءات محكمة الجنايات الدولية التي تستهدف «رؤوس» الحرب، هي كلها نماذج من عمل المنظمات الدولية باتجاه الدول التي لم يعد لها من السيادة سوى الاسم. وهكذا، فإنه بتقديس المساواة الشكلية في السيادة من دون أن يكون بالإمكان تدارك التفاوتات الفعلية فيها، تُسهم المنظمات الدولية في إدامة ما يسمى "النفاق المنظم".
القوى العظمى ذات حصانة خاصة قواعد التقرير في المنظمات الدولية هي ترجمة للبحث عن مبدأ لمساواة النفوذ بين الدول، فالجمعية العامة للأمم المتحدة تؤلف نظرياً بين التصويت بأكثرية الثلثين فيما عنى المسائل المهمة (الأمن خاصة)، وبين التقرير بالأغلبية البسيطة للمسائل الأخرى، ولكنها تقر عملياً الغالبية العظمى من قراراتها، بالإجماع. وهناك منظمات أخرى عدة - منظمة التجارة العالمية، منظمة حلف شمال الأطلسي، المجلس الأوروبي - اعتمدت الإجماع كنمط لاتخاذ قرار، باعتباره المبدأ الذي من شأنه أن يؤمن للقرارات المتخذة احترامها الصارم لتساوي سيادة الدول. أما الاتحاد الأوروبي فإنه يفضل الإجماع، لكنه كان يوسع حقل تطبيق الأغلبية في المجلس، ولكن مع الاستخدام المتواتر للإجماع في الممارسة العملية. ثم إن المنظمات الدولية أدخلت عدداً من الترتيبات والتعديلات على مبدأ المساواة في التقرير واتخاذ القرارات، فمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أولى مقعد عضوٍ دائم، وحقاً في النقض للدول الخمس المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، مكرساً بذلك، في العام 1945، عدم المساواة في الوضعية بين هؤلاء ال5، وال10 الآخرين من الأعضاء غير الدائمين الذين حرمهم من حق النقض. ولطالما أذكى نمط عمل مجلس الأمن، ومنذ زمن بعيد، خطاباً انتقادياً له - أي للمجلس -، لكنه استخدم حجة مضادة للرد على النقد، تقول إنه لما كانت أهلية المجلس وصلاحيته السامية هي الأمن الجماعي الذي لا تعلو عليه مهمة ولا صلاحية، فإن من المنطقي أن تمتلك القوى العظمى فيه وضعية العضو الدائم وأن تتمتع بحق النقض. أما المنظمات الاقتصادية الدولية، فإنها تولي وزنا خاصا للقوى العظمى، ففي مجلس حكام صندوق النقد الدولي، الذي يمثل كل دولة من الدول ال188 الأعضاء، فإن التصويت فيه يتعدل بحسب المساهمة المالية لكل دولة، مما يعطي في الواقع 16 % من الأصوات للولايات المتحدة. وفي منظمة التجارة الدولية، تتمتع القوى التجارية العظمى (الولاياتالمتحدة، الاتحاد الأوروبي، اليابان، كندا، الصين، الهند، البرازيل) بوزن لا يمكن مقارنته بالوزن الذي تزن به كثرة كثيرة من البلدان السائرة في طريق النمو في خوض المفاوضات الجارية، فأما مجموعة العشرين، فإنها تُترجم بلا ريب توسعا بالنسبة إلى مجموعة الثماني (الدول الصناعية الكبرى) في الاصطفاء الداخلي لدخول محفل الحاكمية العالمية هذا.