كانت "أولاد حارتنا" أول رواية كتبها نجيب محفوظ بعد ثورة يوليو، وتسببت في إثارة الأزهر الذي طالب بوقف نشر حلقاتها على صفحات الأهرام. لم يتوقف النشر، غير أنها لم تنشر كتابا في مصر، بل طبعت في لبنان عام 1962. وبعدها بسنوات شكلت المحور الرئيس لمقومات منح جائزة نوبل لمحفوظ عام 1988. مفردة "حارتنا" تستدعي اتفاق كثير من الكتاب والمبدعين بما يشبه الإجماع على أن "الحارة/ المكان" قاد محفوظ للعالمية، حيث يلعب المكان دورا رئيسا في إلهام السرد وبث الروح. هذا النوع من الكتابة أفرز ما يمكن تسميته "أدب الحارة"، وهو الذي مثل المكون الرئيس للإبداع في السرد المصري، قصة ورواية، وامتد بتأثيراته للإبداع العربي، فشكل دورا كبيرا في غالبية إبداعات القصاص والروائيين. غير أن هذا الالتفات إلى الحارة والغرف من عوالمها يكاد يقتصر على المنتج الإبداعي العربي. لكن بعض المبدعين يرى أن الحارة تلاشت حاليا ولم يعد حضورا اجتماعيا ولا إبداعيا. كتاب فضلوا الانطلاق من خارج المكان
مجموعتي القصصية الأولى "نقطة ضعف" التي صدرت عام 1975، امتاحت من فضاءات الحارة الحجازية الثرية في عوالمها والغنية بتنوع شخصياتها. ومن تجاربي أدرك أن النص الذي يؤثر في الجمهور ويدفعه للتفاعل هو الذي يلامس حكايا الحارة وهمومها، فهو نص يعكس الأصالة، ويقدم التقاليد الفطرية لأي مجتمع، حيث يكون مترعا بالشخصيات المحببة القريبة من النفس. الحارة قدمت روادا في السرد على المستوى المحلي سعوديا وفي مقدمتهم أحمد السباعي، الرائد الحقيقي للسرد في هذا الاتجاه، ومن بعده جاء عبدالله الجفري الذي انطلق من الحارة، ومحمد مليباري، أما خارج منطقة الحجاز فكتاب السرد فضلوا الانطلاق في أعمالهم بعيدا عن البيئة، لكنهم بعد ذلك التفتوا لها وعادوا إلى الكتابة من وحي المكان/ البيئة، بكل تفاصيلها على نحو ما فعل الراحل إبراهيم الناصر، وتركي الحمد في أول أعماله الروائية. محمد علي قدس قاص
ثراء بنماذج بشرية سوية ومشوهة الحارة في المجتمعات العربية طبقات وعوالم بالغة التنوع، ثرية بنماذج بشرية متعددة، سوية ومشوهة، بينما الواقع في الغرب، مدني بامتياز، نتيجة لسياقات حضارية بالضرورة تختلف عن الواقع العربي الذي تتميز فيها الحارة الشعبية بتنوع شخصياتها ويومياتها. والأدب الأقرب للواقع العربي ويكاد يكون مقاربا له هو المنتج الأميركي اللاتيني، مع اختلاف التفاصيل والوقائع طبعا. فايز أبا ناقد مجال للإبداع تحول إلى مكان موحش المدينة تظل المهد البكر للحكايات والسرد، الرواية بنت المدينة، نتيجة للتراكم الحضاري والإنساني، بمعنى أن خصوصية المكان تتسلل إلى النص الحكائي. في بلادنا نعرف أن المدينتين المقدستين مكةوالمدينة، فيهما نشأت الكتابة السردية، قد تعرف مدينة ما بعمل روائي ولو كان موازيا للواقع ويستشف منه، وأزعم أني عرفت القاهرة على سبيل المثال من أعمال الروائي الكبير نجيب محفوظ قبل أن أزورها، والكاتب في النهاية فاز بنوبل عن أعماله التي رصدت الحارة المصرية، كثير من الأعمال الروائية العالمية أيضا كانت دليلا لنا إلى مدنها. في الواقع المحلي الراحل محمد صادق ذياب كان يهتم بالحارة الحجازية وخلدها في أعماله، كما خلد المشري القرية الجنوبية في رواياته، وطبيعي أن يكون الخطاب مختلفا من عمل إلى آخر. ولكن غالبا ما يداهمني سؤال مزعج الآن، أين هي الحارة في الواقع المعاصر، وقد أصبحت بيوتنا عبارة عن قلاع لا تعرف حتى جارك؟ الحارة الآن فقدت وهجها وبريقها بعد ما فقدت خصوصيتها والمهن التي تعرف بها، وأصبحت متشابهة وفارغة وموحشة. أحمد الدويحي روائي