جلست بالمصادفة بجوار رجل كبير في السن في إحدى كتابات العدل بمحافظة بيشة قبل نيّف من الزمن، وقد وجدته مستاء، ومتضجرا إلى حد الغضب الشديد، وقبل أن أسلّم عليه أو أتحدث معه بادرني بالكلام، وكأنه ينتظر أحدا يفضفض له، فأعرته حواسي، استمعت إليه وكأني رئيس ذلك المرفق المهم، وقد قرأت في عينيه وبحة صوته صدق العفوية، وترانيم المشاعر، وألم العاجز، وقد أسهب في الكلام وأجزل في الملام عن معاناته مع الموظفين في أغلب الدوائر الحكومية على حد تعبيره. لا مجال لسرد كل ما قاله، ولكن هناك كلمة قالها ضمن كلامه استوقفتني ملياًّ، وهي أن هؤلاء الشباب ويقصد بعض الموظفين غير المخلصين في عملهم أنهم يبحثون عن الوظائف، ويتوسطون حتى يحصلوا عليها، فإذا ما ضمنوا الوظيفة وجدتهم لا يعملون، ولا يخلصون في عملهم. أعزائي لا شك أن الوزارات، والإدارات، وجميع المؤسسات والجهات الخدمية سواء الحكومية منها أو الأهلية بأنواعها كافة، وتصنيفاتها ومسمياتها لم توضع إلا لحاجة الناس لها، ولخدماتها المختلفة وبالتالي فقد أنشأت المباني، وجهزت الوسائل، وأهلت الموظفين، واستقطبت الخبراء، ووضعت الفروع، ونشرت الدعايات كي تجلب الناس إليها لتقديم الخدمات اللازمة، كلٌ حسب حاجته، وما تقتضيه مصلحته سواء بالمجان أو بالمقابل المالي، وفي الجانب الآخر تجد الناس يبحثون ويسألون بعضهم عن تلك الجهات وأماكنها وما يمكن أن تقدمه لهم من خدمات طيبة ومساعدات جيدة، وهذا كله حسن ولا إشكال ولا لبس فيه، غير أن المشكلة الحقيقية تكمن في تهاون البعض من المنتمين لمثل هذه الجهات؛ لأننا نجدهم مع الأسف أمامنا في كثير من المرافق التي نراجعها لأي أمر، ولا أظن أن أحدا لم يسلم من ذلك الكابوس المزعج "تعطيل مصالح الناس" الذي يؤرق كل صاحب مصلحة في أي إدارة، لا سيما الحكومية، فعندما تذهب إلى هذه الإدارة أو تلك يقابلك بعض الموظفين بوجه كالح تغيب عنه الابتسامة التي تعلمنا من هدي نبينا -عليه الصلاة والسلام- أنها صدقة، يتصدق بها المسلم على من تبسم في وجهه، ويكسب بها حسنات دون عناء أو مشقة، ولا يقف الأمر عند حجب تلك الابتسامة، بل يتسع الأمر إلى انشغال الموظف عنك بهاتفه النقال أو هاتف مكتبه الثابت الذي لا يستطيع أن يتركه أحيانا دقيقة واحدة ويأتي بعد ذلك بند التصريف، فيصرفك إلى موظف آخر. أو بأن طلبك تحت الدراسة وهو ليس تحتها ولا فوقها لكنه بند التصريف قاتل الله ذلك البند، أو يصرفك بالعبارة الشهيرة "راجعنا بكرة"، وهكذا تتعطل مصالح الناس وتتأخر أنشطتهم بسبب هذا الموظف المتسيب المتسبب الذي لم يخاف الله أولا ولم يحسب حساب رئيسه، ولم يستح من الذين يقفون أمامه وينتظرونه لعله ينظر إليهم على الأقل بطرف عينه، وقد مدّ كل واحد منهم يده إليه، وهي تحمل أوراق المراجعة، وبعضهم كبار في السن فلا ينظر إليهم، وإن نظر إليهم فهي نظرة واحدة تتبعها تصريفة واحدة أيضا للجميع. لا شك أن هذه نماذج سيئة وبالتأكيد تقابلها نماذج تستحق رفع العقال احتراما لهم على إخلاصهم، وأمانتهم، وتفانيهم في عملهم. بقي أن نقول ما أجمل أن يخلص الموظف في عمله أيا كان ذلك العمل، وتحية تقدير وإجلال وإكبار لكل موظف يستشعر المسؤولية، ويراقب الله قبل الناس ويأكل ويطعم أهل بيته بالحلال، فمن أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل.