حين يصل الإنسان لمنتصف العمر يشده دائما الماضي فيصبح كل ما هو ماض جميل، وتتحول مرحلته الحالية إلى مرحلة لا طعم لها ولا رائحة بل هي أقرب إلى المسخ، وتعمل ذاكرته بجهد على تجميع أجزاء من صور طواها النسيان وتراكم عليها غبار الماضي ليجمعها في صورة واحدة ويبرزها بحاضرة، وحتى يجمل الصورة يطلق آهة تخرج من حنايا الصدر وابتسامة رضى يرسمها على وجهه. الصورة التي جملتها بابتسامة الرضى تعود لسبعينات القرن الماضي وفي مكان كان أقرب للقرية التي تحولت مع مرور الأيام لمدينة عصرية اسمها عجمان، مسقط رأسي وملعب طفولتي وشبابي. يومها كانت عجمان تنقسم إلى قسمين: "الفريج الشرجي" (شرق القرية) والفريج الغربي، وكان ل"الفريج الشرجي" ناد يحمل اسم الشعلة وعندنا بالفريج الغربي ناد يحمل اسم الناصر، وبه كانت بدايتي مع كرة القدم حيث كنت حارسا لمرمى الناصر وفي الوقت نفسه حارسا لمرمى مدرسة (المعهد العلمي الإسلامي) الذي كنت أدرس به مرحلة الثانوية العامة، وكان مدربنا بالمدرسة وبالنادي الأستاذ جاسم مندي الحكم البحريني المشهور. في تلك السنة تأهل نادينا ليلعب الدورة الرمضانية التي كانت تجمع فرق الدرجة الأولى وبعضا من فرق الدرجة الثانية، كانت سعادتنا لا توصف لأننا سنلعب ضد فرق الأهلي والنصر والشارقة والشباب التي تضم لاعبي منتخبنا الوطني أحمد عيسى وسالم بوشنين وربيع مبارك والمرحوم جمال موسى والكابتن أحمد عيسى أول كابتن لمنتخب الإمارات، يومها كسبنا الشباب بهدف وخسرنا من الأهلي والنصر وكسبنا الشارقة بقرار إداري حيث لعب الفريق بلاعب موقوف، المهم حصلنا على المركز الثالث وليس هذا هو المهم بل إن الأهم الحضور الجماهيري الذي يفوق الحضور الجماهيري في دوري المحترفين اليوم، وكانت العلاقات الاجتماعية في ذلك الزمن في أبهى صورها حيث تتجمع كل مجموعة بمنزل أحد الأصدقاء لقضاء ما تبقى من الليل وتناول السحور وإن كانت الظروف المادية لأحدنا جيدة يحصل التجمع في أحد المطاعم لتناول السحور ثم التوجه لصلاة الفجر. كانت البساطة وقتها عنوان المجتمع، لم تكن المادة هي ما يشغلنا في أمور الحياة، كان التواصل يتم بالزيارة والسؤال بينما اكتفينا اليوم ب"المسجات" و"الواتس أب" وغيرها من التواصل بالوسائل الإلكترونية. كانت المجالس هي المكان الذي يجمعنا ولو تغيب أحدنا عن الحضور سأل الجميع عنه، بينما اليوم أصبح التواصل بين الأخ وأخيه متى ما سمحت الظروف بين حين وآخر. اعذروني إن رسمت أمام عيني صورة الماضي الجميل الذي لم تلوثه في الشهر الفضيل البلادة أمام التلفزيون لمشاهدة الغث الذي تبثه المحطات من مسلسل خليجي مغلف بالأحزان والدموع وقضايا الخيانة والطلاق والعقوق! وكل ما يخرج من عقلية شخص مريض يفرض كل هذا الغث على المشاهد، وتشجعه المحطات لتبيع من خلاله الإعلان والوهم. أو كمية المسلسلات العربية وبرامج المقالب المستخفة بعقلية المشاهدين وتفقد رمضان روحانياته وتجبرنا للعودة لماض كان -وما زال- يحمل كل المعاني الجميلة لهذا الشهر الفضيل. قد أرى شيئا لا يراه شباب اليوم من يعتبرون أن سبعينات وثمانينات القرن الماضي هو (زمن الطيبين) وقد يرون أن رفاهية هذا الزمن أفضل من ذلك الزمان، وقد أكون قد بلغت من الكبر عتيا وذاكرتي لا تستوعب إلا تلك الصورة الجميلة لماض ما زلت أراه جميلا، وما زلت أعيش بحاضري في برواز تلك الصورة التي لا تفارق ذاكرتي.