كان الإعلاميون اليمنيون في مقدمة المتطوعين الذين انضموا للمقاومة الشعبية ضد قوات الحوثيين في اليمن، إذ صمموا على الوقوف في وجه الحلف الانقلابي لميليشيات الحوثي وقوات المخلوع علي عبدالله صالح. وسارع كل من يقدر على حمل السلاح إلى حماية مدينته. الشهيد عبدالكريم مثنى، أحد هذه النماذج التي امتشقت السلاح، للمرة الأولى، وتقدمت الصفوف دفاعا عن العرض والأرض، وسال دمه الطاهر على بلاده وهو صامد صمود جبالها. مثنى شاب في عقده الثالث، وأحد مثقفي المحافظة، ومدير إذاعتها المحلية، استشهد وهو يصد همجية الانقلابيين وعبثهم في طول البلاد وعرضها، لا لشيء سوى أنهم يحاولون إشباع رغباتهم الانتقامية والسلطوية، وتنفيذا لأجندة خارجية قبلوا أن يكونوا خداما لها على حساب مصلحة الوطن والمواطن اليمني. لم يرض مثنى أن يكون رهن المكتب الفاخر والكرسي الوثير والهواء البارد، واختار بمحض إرادته أن يذهب إلى مواقع القتال، وأن يحمل البندقية، مدافعا عن شرف مدينته، وأن يقضي الليل بطوله في تمشيط شوارعها من دنس العملاء الذين باعوا وطنهم بثمن بخس، وارتضوا أن يكونوا أداة في يد إيران، لتنفيذ أحلام إمبراطوريتها الفارسية الغابرة التي دكتها جحافل الفتح الإسلامي إلى غير رجعة. رفض مثنى كل النداءات التي طالبته بالبقاء في مكتبه، والاكتفاء بممارسة دوره الإعلامي في تنوير الرأي العام بالحقائق وإثارة نخوة الشباب، وحثهم على الذهاب إلى مواقع القتال، وأبى إلا أن يكون أول من ينفذ ذلك، وكأنه كان على موعد مع الموت، وهو الذي كثيرا ما حدث أصدقاءه بأنه يتمنى الموت شهيدا في سبيل وطنه وأرضه وعرضه. قدوة فعلية توالت بيانات النعي باستشهاد مثنى، ورثته نقابات ونخب وشخصيات سياسية وثقافية داخل المحافظة وخارجها، وتحدثوا جميعهم عن مناقب الفقيد الذي عُرف بثقافته وفكره المستنير، وثباته على المبادئ، علاوة على إخلاصه وحرفيته في العمل في كل المهمات التي تولاها بعد حصوله على شهادة البكالوريوس في مجال الإعلام، ومن ضمن تلك المهمات توليه منصب مدير إذاعة مأرب المحلية. يقول عنه الصحفي عبدالله القادري، وهو أحد الموظفين الذين عملوا معه في الإذاعة: "وجدت عنده سداد الرأي، والحنكة والفهم العميق وقراءة الأحداث، وتحليلها بسرعة وبدقة متناهية. كان دمث الأخلاق، يحب النفع للصغير والكبير، لمن يعرف ومن لا يعرف، لا يحمل الحقد، ولا يستخدم منصبه كسلطة يتسلط بها على من هم تحت إمرته". وأضاف القادري ل"الوطن" "كان مثنى بمثابة الملهم الذي يحدد لنا اتجاهاتنا في غالبية أعمالنا، خصوصا في الجانب الإعلاني، كونه يملك خبرة سنوات طويلة، فكان يعمل لدى التلفزيون اليمني كمراسل، ومن ثم انتقل إلى تأسيس إذاعة مأرب المحلية في عام 2008". وتابع بالقول: "إعلاميو مأرب ومثقفوها يتقدمون الصفوف للذود عن حياضها، وصد الغزاة، والشهيد عبدالكريم مثنى أحدهم، فقد أجبر على وضع القلم وحمل السلاح، ليفدي بروحه وطنا بأكمله، ويحقق آمال 25 مليون مواطن يمني مضطهدين من قبل ميليشيا الطغيان والجبروت". إيمان قناعات وينعي الكاتب اليمني محمد الشبيري الشهيد عبدالكريم ويقول: "رحل صديقي، وترك في القلب غصّة وألما، من أين لي بصديق بشوش وجواد ووفيّ مثل عبدالكريم؟، وأين نجد مثل هذا الفهم العميق، والحرفية الكبيرة، والمهنية التي لا حدود لها؟". ويسرد الشبيري عددا من نخبة محافظة مأرب الذين استشهدوا وهم يدافعون عن أرضهم ويقول: "مدير مديرية الوادي عبدالله جرادان، مدير إذاعة مأرب عبدالكريم مثنى، نقيب المعلمين اليمنيين سالم رقيب، مأرب تقدم فلذات أكبادها دفاعا عن الدولة من تغول ميليشيا الحوثي". وأضاف "مثنى لم يكن مجرد إعلامي ناجح، بل كان إنسانا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لم يكن يعرف الكذب والمداهنة، بل كان واضح المواقف، لا يفرق بين قناعاته وتصرفاته، وكل ما يؤمن به يجسده على أرض الواقع. أحبه الجميع لصدقه، وكان يمثل مدرسة في عالم الإعلامي الحقيقي، البعيد عن الكذب والتهويل واختلاق الأحداث واصطناعها. لم يخضع لتهديدات الحوثيين ولم يرهب الوقوف في وجه الظلم. كان إلى جانب رقته ودماثة أخلاقه قويا في الوقوف أمام الظالم، والجهر بكلمة الحق". استنهاض الهمم وفي أول يوم من محاولات المتمردين الحوثيين وقوات المخلوع الدخول إلى مأرب، كتب الشهيد في صفحته على موقع فيسبوك للتواصل الاجتماعي "من مديرية صرواح بدأت اليوم معركة الحسم بإذن الله، ضد الغزاة المعتدين على مأرب، وستجري على مراحل عدة، وستتخذ الموجهات أشكالا وألوانا متعددة، وستدور على ميادين عدة، ليست صرواح آخرها وستكون الحرب فيها سجالا، يوم لك ويوم عليك، لكن اليوم الأخير فيها سيكون بمشيئة الله وقدرته للمدافعين عن أنفسهم وعن أعراضهم وأرضهم". وطالب مثنى كل القادرين بحمل السلاح بالمبادرة والذهاب إلى جبهات القتال، وقال في إحدى رسائله التي بثها على صفحته في موقع فيسبوك للتواصل الاجتماعي: "علينا مراعاة أن أوطاننا لها حق علينا، ومن الواجب أن تكون الطبقة المثقفة في طليعة المدافعين عن الأرض والعرض، فالمجتمع ينظر إلينا على أننا قدوة، وينبغي ألا نخيب ظن الناس فينا". ويوجه الشهيد رسائل مهنية في منشوره ويقول "للمتعجلين النصر أقول اجتنبوا الكذب ولو كان أبيض، وتحروا الصدق ولو كان مرا، دعوا التهويل والتضخيم عند نقل أخبار وأنباء المعارك، تجنبوا تزييف الحقائق ولو كانت مؤلمة، دعوا تسويق الانتصارات الوهمية، لأن هذا الأسلوب ضرره أكبر من نفعه، فإذا كان حبل الكذب لأجل الباطل قصيرا، فحبل الكذب لأجل الحق أقصر".
تعداد المآثر وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بصور الشهيد عبدالكريم مثنى وعبارات المديح له، ليكشف رحيله حجم النضال والتضحية لنخبة مأرب، ولأبناء مأرب بشكل عام، ووقوفهم حجر عثرة أمام مشروع الانقلابيين وصلفهم وعدوانهم الذي لا يعرف سوى الهدم والتخريب. وفي السياق ذات، يقول الصحفي اليمني صالح سعيد إن مقتل مثنى خسارة لا تعوض للإعلام اليمني قاطبة، مشيراً إلى أنه كان يتمتع بحرفية عالية، وكان عمله ينم عن تمكن شديد في مهنته، وأضاف في تصريحات إلى "الوطن": "مثنى كان من أبرز الإعلاميين اليمنيين، وكان الجميع يتوقع له مستقبلا بارزا في مجال الإعلام، ولا غرو في ذلك، فهو متخصص دخل مجال الإعلام من أبوابه الأمامية، فتخرج من كلية الإعلام، وتدرج في مناصبه حتى وصل مدير الإذاعة المحلية في مأرب، وأحدث فيها تطورا ملحوظا شهد به الجميع". مهنية نادرة ومضى سعيد بالقول "كثير من الزملاء الإعلاميين حاولوا إثناء الشهيد عن الذهاب لجبهة القتال، وسعوا إلى إقناعه أن بقاءه وراء الميكرفون يمكن أن يكون دفاعا عن المدينة والوطن، وأن بإمكانه القيام بدور أكبر من خلال مخاطبة المواطنين وحثهم على قتال المتمردين، لكنه رفض كل تلك النداءات، وأصر على الذهاب بنفسه للذهاب عن مدينته، رغم أنه لم يسبق له حمل السلاح في حياته، ولو للدفاع عن النفس، وأراد أن يكون قدوة لكل أبناء المدينة، وقد حاولت إثناءه عن ذلك، وقال لي بالحرف الواحد إنه أحد أبناء المدينة، قبل أن يكون إعلاميا، وإن الواجب يحتم عليه أن يذهب للقتال من أجلها، ولو كان ذلك على حساب صحته وحياته، وكان كأنه على موعد مع القدر، ليقدم نفسه فداء لوطنه، ويضحي بحياته من أجلها". ومضى سعيد بالقول "إضافة إلى الصفات المهنية العالية التي كان يتحلى بها مثنى، فقد كان إنسانا حلو المعشر، دمث الأخلاق، لم يعرف عنه زملاؤه ومن عاصروه سوى المحبة، ولم يسبق أن تجرأ على أحد، وخسارة مأرب فيه كبيرة، لكن عزاؤنا أنه قدم نفسه شهيدا في سبيل وطنه، وأن مضى دفاعا عن أرضه وعرضه وماله".