استعرض قسم التحليل بمركز الدراسات الأميركية العربية، في السادس من مارس الجاري، التطورات الميدانية في العراق لاستعادة السيطرة على الموصل والمدن والبلدات العراقية الأخرى في محافظتي صلاح الدين والأنبار، على ضوء اتضاح مشاركة إيران المباشرة في الجهد العسكري، إعدادا وتدريبا وتسليحا، فيما يأتي نص التحليل: لم يعُد فشل سياسة الرئيس الأميركية باراك أوباما في العراق، وامتدادا في سورية، مجرد ترف للتحليلات السياسية في المشهد الأميركي. وسيل الاتهامات لم ينقطع كان أحدثها ما جاء في صحيفة "نيويورك تايمز" 5 مارس الجاري، بأن الرئيس أوباما "أصبح يعتمد بشكل متزايد على المقاتلين الإيرانيين لاحتواء تمدد تنظيم داعش في العراق وسورية من دون المجازفة بمشاركة قوات أميركية برية. كما عكست "الاتهامات" مدى تذمّر الحكومة العراقية من المماطلة الأميركية في تسليم الأسلحة التي تم التعاقد عليها ودفع ثمنها مقدما، من ناحية، وإعلان القيادة العسكرية الأميركية "من دون مبرر أو تنسيق مسبق" موعد الهجوم المحتمل ضد داعش، من ناحية أخرى، ما أسهم في بروز التوترات بين البلدين إلى العلن "قد تفسد الود" بينهما. أحد أهم المنابر المقربة من الإدارة الأميركية، صحيفة "واشنطن بوست"، 6 مارس الجاري، اتهمت السياسة الأميركية "بالسذاجة.. بسماحها لإيران بتصدر المشهد العسكري المناهض لداعش في الحملة لاستعادة مدينة تكريت ومناطق أخرى من العراق.. وتهيئة الفرصة لإيران للإقدام على خطوة تستبدل فيها (داعش) النظام الإرهابي بآخر يلبي هيمنته الشريرة". استرداد تكريت سبق أن استعرض "المركز" إعلان الاستعداد للبدء بالهجوم لاستعادة مدينة الموصل من قبضة داعش، والعقبات التي تعترض مهمة بذلك الحجم، لا سيما ضرورة استعادة السيطرة على عدد من المدن والبلدات المهمة على الطريق الرئيس بين بغداد والموصل، بغية إنشاء مركز إمداد وتموين آمن للقوات العراقية. عقب "تسريبات" القادة العسكريين الأميركيين موعد الاستعداد الهجوم، أعلنت الحكومة العراقية تأجيله من جانب واحد، وانطلقت لتحاصر وتستعيد تكريت – أولى المدن التي ينبغي استعادتها لتأمين طرق الإمداد. في الجانب الأميركي، اتُهِمت الإدارة الأميركية بأنها وقعت فريسة غطرستها وأصابتها الدهشة لبدء الحملة على تكريت، مؤكدة في جملة من التصريحات المتلاحقة أنها "لا تُجري تنسيقا للجهود مع إيران" في ذاك الشأن. أكد البنتاجون لصحيفة "نيويورك تايمز" انتظام إجراءات "مراقبة ومواكبة مكثفة للطيران الأميركي للجهود الإيرانية في الحرب ضد تنظيم داعش... عبر سلسلة من القنوات المتعددة والمتاحة". وأرجعت الصحيفة "نجاح الاستراتيجية الأميركية في العراق حتى اللحظة إلى إيران.. بدءا من ضرب الحصار حول قوات داعش في آمرلي"، مرورا بنجاح الجهود لتحرير مدينة "بيجي" ذات الأهمية المركزية، وما نشهده راهنا من معارك واشتباكات مباشرة. حشود المعركة لفت قادة عسكريون الأنظار إلى "تعديل" داعش لخطة انتشاره وخوض القتال وعدم التمركز. سعى داعش سريعا إلى استغلال كثافة العنصر المدني في محيط مدينة تكريت واستخدامه درعا بشريا لحمايته، وذلك "بدهم مئات المنازل واختطاف أعداد كبيرة من أبناء العشائر العراقية المختلفة، وإرغام الأهالي على تسليم هواتفهم النقالة". عقب اطمئنانه للسد البشري الكبير، اصطحب نحو 100 شخص إلى منطقة نائية وقام بالكشف عن كل المكالمات المدونة ومقارنتها بكشوفات جاهزة لديه بغية التيقن من عدم إجراء أي منهم اتصالات مع عناصر يعدها معادية له. على الجانب العراقي، حشدت الحكومة قوة قوامها 30 ألف عنصر تدعمها ثلاث كتائب من قوات الشرطة للطوارئ وقوات الأمن ومنظمات "الحشد الشعبي"، بمساندة سلاح الجو ووحدات القوات الخاصة العراقية، استطاعت الدخول من حي القادسية شمالي مدينة تكريت والاشتباك مع عناصر داعش مكبدة التنظيم خسائر بشرية كبيرة، وخسارة المنظمات لثمانية عناصر وجرح نحو 42 آخرين. أحد زعماء العشائر في محافظة صلاح الدين، وَنَس جبارة، أوضح أن نحو 4500 مقاتل من أبناء محافظته يشتركون في القتال ضد داعش. العامل الإيراني حفز الحضور العسكري الإيراني المباشر في الحملة لاستعادة الموصل صحيفة "وول ستريت جورنال"، في 4 مارس الجاري، بوصفه أنه يُشكل جزءا من تحولات أشمل في السياسة الإيرانية الخارجية، كثمرة لتوتر العلاقات العراقية الأميركية و"أزمة الثقة" بين الطرفين. من اليقين غياب الدعم الأميركي عن هذه الحملة لأسباب متباينة بين الطرفين. أرجع المتحدث باسم البنتاجون، ستيف وورين، غياب الدور الأميركي إلى "مشاركة مكثفة من الإيرانيين في الهجوم". قالت "نيويورك تايمز" على لسان مسؤولين أميركيين كبار قولهم إن الجانب العراقي "لم يطلب دعما أميركيا في تكريت"، وربما كان الأمر كذلك نظرا لقناعة العراقيين بعدم استجابة الولاياتالمتحدة لذاك الطلب. أما الموقف الأميركي من نتائج المعارك فهو ملتبس في أفضل الأحوال. نجاح القوات العراقية والقوى المساندة في الهجوم على تكريت واستعادتها السيطرة "تدريجيا"على بعض البلدات والمدن، ومن ثم الموصل، سيعزز من النزعة الاستقلالية عن الولاياتالمتحدة، وبدء هزيمة مشروعها للهيمنة عبر مناطق نفوذ تابعة ومقسمة عرقيا وطائفيا، بصرف النظر عما تراه قيادات أميركية عليا من تسخير الإنجازات في خدمة استراتيجيتها العليا "حتى من دون مشاركة أميركية مباشرة". استفادة إيران من أي تقدم وإنجاز في الحملة الراهنة غني عن التعريف، ولم يغفله الخطاب السياسي الأميركي الذي أعرب عن قلقه البالغ من أنباء موثقة تشير إلى مشاركة قائد قوات القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في إدارة المعركة. وعدّ قائد هيئة الأركان الأميركية، مارتن ديمبسي، مشاركة إيران "عاملا إيجابي"، محذرا من تقويض الإنجازات ربما يغلب التوتر الطائفي. شهادته التي ألقاها أخيرا أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ جاءت بخلفية أنباء تشير إلى "إعدام 70 مواطنا" في محافظة ديالى بدوافع طائفية على أيدي "الميليشيات الشيعية". إعطاء الأولوية للعامل الطائفي سيهدد خطوط الإمداد الخلفية، لا سيما في المواقع التي تمت استعادتها على طول الطريق بين بغداد والموصل، واضطرار القادة العسكريين إلى تخصيص قوات مدربة كبيرة لمهمات حراسة الطريق وقوافل الإمداد على حساب المعركة الأساس، وما ستفرزه الظروف من تنامي مشاعر عداء المواطنين ضد الحكومة المركزية وربما الاصطفاف إلى جانب تنظيم داعش نكاية بها. الموصل كانت ولا تزال بؤرة أطماع تركية وكردية على السواء، لا سيما أن "منطقة الحكم الذاتي" في كردستان العراق تتوثب للمشاركة في السيطرة على الموصل وحصد نتائج فورية، وفق منظور قياداتها المرتبطة تاريخيا بالقوى الأجنبية والمعادية للعراق والوطن العربي. في أسوأ الأحوال، تنتظر قيادة الإقليم الكردي تراكم تنازلات إضافية من جانب الحكومة المركزية في بغداد، لا ترغب بها، لقاء الوقوف على الحياد في المعركة ضد داعش. الطريق لاستعادة الموصل لا يزال في مراحله الأولى، يعزز المضي به الإنجازات التي تحرزها القوات العراقية والأخرى المشاركة. الانتصار الحقيقي هو خارج الدائرة العسكرية الصرف والقدرة على "استعادة ثقة" الأهالي كمواطنين وليس "كمكونات طائفية".