تبدو "أبين" حاضرة مدن الجنوب اليمني وكأنها تعيش أجواء حرب حقيقية. مظاهر صخب مسلح تزدحم بمشاهد دراماتيكية لمواجهات تنشب وأخرى تنطفئ وصور قاتمة لجدران ومنازل ومنشآت حكومية وأمنية وعسكرية تحولت واجهاتها إلى شاهد إضافي على دورات متجددة من العنف، الذي أفقد "أبين" ومنذ أشهر القدرة على احتواء أزماتها والتوصل لتسوية ولو نسبية مع تداعيات مزاج شعبي عكر. "الوطن" كانت في قلب مدينة "لودر" بعد أيام قليلة من هدوء صخب المعارك الطاحنة والتي حرصت على تقصي طبيعة الأوضاع الأمنية الراهنة في "أبين" في ظل اشتداد ضراوة المواجهات المسلحة بين السلطات اليمنية،وعناصر تنظيم "القاعدة" التي امتدت إلى مناطق خارج منطقة "لودر"، بخاصة منها "مودية" حيث يعتقد أن تنظيم "القاعدة" حولها إلى قاعدة خلفية إضافية لمواجهات تبدو أشمل، والوقوف عن كثب على حقيقة المعلومات المتعلقة بوجود عناصر سعودية من "القاعدة" من خلال التحقيق الميداني. ماذا يحدث في أبين؟ على الرغم من عدم إدراج "أبين" ضمن المدن اليمنية المشتبه في تحولها إلى حاضنة لعناصر "القاعدة"، إلا أن الحضور الكبير للتنظيم في المدينة يرجع لسنوات سابقة، وتحديدا لعام 2003، الذي شهد أولى المواجهات المسلحة بين القوات اليمنية ومجاميع مسلحة تابعة للتنظيم في منطقة "جبل سرار"، فيما لم يعد سرا الوقوف على حقيقة تواجد عناصر "القاعدة" في بعض المناطق، وهو ما أكده النائب في البرلمان اليمني علي عشال، والذي يعد أحد الوجاهات الاجتماعية البارزة في "أبين"، بالقول إن "عناصر القاعدة في أبين معروفون لدى الناس، وهم يتواجدون في بعض القرى، والناس تعرف أسماءهم ومواقع تواجدهم، وهذا ليس سرا بل أمر معروف". وتعيش "أبين" ومنذ مطلع يوليو الماضي ظروفا أمنية استثنائية، عقب تصعيد تنظيم "القاعدة" وبشكل لافت، لعملياته المسلحة التي بلغت حتى مطلع سبتمبر الجاري 21 عملية هجومية، استهدفت في مجملها ضرب منشآت أمنية وعسكرية، وتصفية شخصيات أمنية واستخباراتية، ذات صلة بملف مكافحة الإرهاب، وحملات التعقب والملاحقة لعناصر التنظيم في "أبين"، وبعض المحافظات المجاورة، وأسفرت هذه العمليات، بحسب مصادر مستقلة، عن مصرع ما يقدر ب 52 عسكريا من قوات الجيش، ووحدات الأمن المركزي المتخصصة في مكافحة الإرهاب، مقابل مصرع 15 من عناصر "القاعدة"، قبيل أن يتوج مشهد الصراع المحتدم بين التنظيم والسلطات اليمنية بتحول دراماتيكي لافت في السياق التقليدي للمواجهات، نقل الأخيرة من نمط الهجمات الخاطفة ل"القاعدة" والضربات الاستباقية للقوات الأمنية اليمنية، إلى اشتباكات مباشرة ومتصلة احتكرت مشاهدها الدامية منطقة " العماير" التابعة لمديرية "لودر" التي تحول العديد من أحيائها وشوارعها إلى ساحات مغلقة،على مواجهات مسلحة أشبه ب "حرب عصابات "، قبيل أن تنحصر الاشتباكات في بعض الأحياء، بين مجاميع مسلحة من "القاعدة" تتمركز في منازل متفرقة بذات المنطقة وقوات مشتركة من الجيش والأمن المركزي، الأمر الذي تسبب في نزوح ما يقدر بثمانين ألفاً من السكان إثر اشتداد المعارك وارتفاع سقف التوجسات الشعبية من حجم التداعيات المقبلة. ويقول عبد السلام علي يحيى جابر، من أبناء مديرية "لودر"، إنه "لا يوجد مكان آمن في منطقة العماير. لقد فتحت الحرب الراهنة بين القوات الأمنية والجيش، وعناصر القاعدة، أبواب جهنم على أهالي هذه المنطقة الذين هرب معظمهم من النيران إلى مناطق مجاورة"، مضيفا "الجيش والأمن لا يريدون بقاء سكان في العماير وطالبوا الجميع بالنزوح. إنهم يريدون إغلاق المدينة على عناصر القاعدة، ودفنهم ربما تحت أنقاض المنازل التي يتحصنون فيها ". سعوديون تحت الحصار تقصي حقيقة أعداد عناصر "القاعدة" المحاصرين في منطقة "العماير" وعما إذا كان بينهم عناصر أجنبية وسعودية، استدعى البحث عن مصادر مستقلة في ظل النفي الرسمي ومظاهر التشكيك الذي أثاره الإعلان عن اعتقال عناصر أجنبية خلال مواجهات "لودر" الراهنة. وبحسب ما أفادت به مصادر محلية من قبيلة "العواذل" إلى "الوطن"، فإن ما يقدر ب 200 مسلح من "القاعدة" يخوضون ومنذ أسابيع مواجهات عنيفة مع قوات الأمن والجيش اليمني، وأن من بين هؤلاء عناصر سعودية محدودة، لا يتجاوز عددها عشرة أشخاص، بعضهم وفد إلى "لودر" قبيل حلول شهر رمضان المبارك، بأيام قليلة فقط. تأكيد أمني مصادر أمنية مطلعة ب"أبين" كشفت ل"الوطن" عن معلومات استقتها السلطات اليمنية من اعترافات أدلت بها عناصر تابعون ل"القاعدة" عقب اعتقالهم الأسبوع قبل الماضي في منطقة "العماير" من بينهم يمني يدعى أنيس العولي، تشير إلى مشاركة عناصر سعودية في نصب بعض الكمائن التي استهدفت دوريات عسكرية وأمنية وافدة للمشاركة في حصار مسلحي "القاعدة"، ما أسفر عن مصرع 14 جندياً. وأكدت ذات المصادر أن سعودياً من عناصر "القاعدة" امتنع عن كشف هويته، لقي مصرعه مع 7 آخرين من أعضاء التنظيم، بينهم اثنان آخران من الأجانب، نهاية الأسبوع الماضي، خلال انفجار عبوات ناسفة تم إعدادها من قبل "القاعدة"، ككمين استهدف دورية عسكرية في "لودر"، ما أسفر عن مصرع 11 من أفراد الدورية. ويقول مسؤول محلي بمنطقة "لودر" ل"الوطن"، إن من بين عناصر "القاعدة" الذين كانوا يقاتلون في "لودر"، سعوديين، وباكستانيين، ومصريين، وسوريين، ونحو 8 صوماليين، من حركة "الشباب المجاهدين"، الموالية ل"القاعدة". الفرار إلى جبال "الكور" إحكام قوات من الجيش اليمني معززة بوحدات متخصصة في مكافحة الإرهاب فرض طوق أمني وحصار مشدد على منطقة "العماير" بعد إخلائها من معظم سكانها لتركيز الضربات على مسلحي "القاعدة" المتمركزين في بعض المنازل والأحياء بالمنطقة والذين يستخدمون أسلحة متوسطة وقذائف "آر. بي. جي"، لم يحل دون تمكن العديد من هؤلاء من التسرب من قبضة الحصار والفرار باتجاه جبال "الكور" المتاخمة لمنطقة "العماير" التي تعرضت بدورها مؤخرا لعمليات قصف صاروخي مركز على مواقع تمركز عناصر "القاعدة". ويقول مسؤول محلي ب"لودر" ل"الوطن" إن هذه المجاميع تتمركز حالياً في منطقة "أمعين" والتي شهدت اشتباكات مع قوات الأمن ثالث أيام عيد الفطر المبارك، بالإضافة إلى منطقتي "المنياسة" وجبال "الخور" في محافظة "أبين". أما المجموعة الكبرى منهم فقد اتجهت إلى محافظتي "مأرب" و"شبوه" في مقدمهم زعيم التنظيم في جزيرة العرب ناصر الوحيشي ونائبه السعودي سعيد الشهري، والقيادي البارز في التنظيم، المطلوب للولايات المتحدة أنور العولقي، وشخص يدعى "الشبواني" يعتقد أنه أمير "القاعدة" في محافظة "مأرب"، إضافة إلى أميرها في مديرية "لودر" ويدعى خالد باطرفي الذي يقول المسؤول الحكومي إنه كان القائد الميداني لمسلحي التنظيم خلال المواجهات الماضية، مع قوات الجيش والأمن. ويشير المسؤول المحلي إلى أن واحداً من أهم المعاقل الرئيسة ل"القاعدة" يتواجد في مديرية مودية التابعة لمحافظة "أبين"، ويقول إن "مجاميع مسلحة منهم يعسكرون ويجتمعون حاليا لدى أمير التنظيم في مودية عبدالمنعم الفتحاني". ويؤكد أن "جيوبا لمسلحين من التنظيم، لا تزال موجودة داخل مدينة لودر، وأن عددا منهم يظهر فجأة ويختفي فجأة". ويؤكد الباحث الأكاديمي المتخصص في شؤون "الجماعات الأصولية" جمعان حسن عبده باصهيب أنه"قد تسرب العديد من عناصر القاعدة الذين كانوا محاصرين في العماير بلودر وفروا باتجاه جبال الكور، مما سيتسبب في امتداد نطاق العنف إلى مناطق مجاورة لمنطقة العماير". ويرى أن "نجاح هؤلاء في التسلل خارج الطوق الأمني والعسكري المشدد قد يشير إلى حصولهم على مساعدة من جهات محلية، وهو احتمال قائم وربما يصب في اتجاه اتهام أطراف محددة بالوقوف وراء تهريب مطلوبين من القاعدة وتسهيل وصولهم إلى مواقع آمنة،خارج نطاق الحرب الضارية الناشبة حاليا في لودر". الحراك الجنوبي و"القاعدة" أصابع الاتهام الحكومية اتجهت ومنذ وقت مبكر إلى الربط بين رفض مجاميع منضوية في إطار ما يسمي "قوى الحراك الجنوبي" في "أبين"، مغادرة منطقة "العماير" والانصياع لطلب السلطات الأمنية بإخلاء المدينة والتوجه صوب مناطق مجاورة، مع التعهد بالتسريع بالحسم العسكري للمواجهات الطارئة مع أعضاء "القاعدة" وبين التواجد المكثف لعناصر في ذات المنطقة، وتمكنهم من الصمود رغم كثافة القصف المركز من قبل القوات الأمنية، ضد مواقع تمركز المحاصرين من أعضاء التنظيم. بل وصلت تلك الاتهامات، إلى حد إدانة "قوى الحراك"، بالتدخل المباشر والمسلح، في المواجهات لصالح عناصر "القاعدة" من خلال تطوع مقاتلين وفدوا من مناطق مجاورة للمشاركة في القتال ضد القوات الأمنية، وهو ما قوبل بنفي قيادات "قوى الحراك الجنوبي" في "أبين"، والتي تعاطت مع الاتهامات الحكومية بتورط "قوى الحراك" في تقديم الدعم اللوجستي والمسلح لتنظيم "القاعدة"، باعتبار "هذه الاتهامات جزءاً من محاولة تشويه سمعة قوى الحراك، وتسويق الذرائع لاتخاذ إجراءات أمنية عقابية ضد ناشطيه في أبين". ويقول عيدروس حقيس القيادي في "الحراك الجنوبي" إنه "لا توجد أية علاقة بين قوى الحراك بكل ما يجري حاليا من عنف في مديرية لودر، وقد أبدينا موقفاً رافضاً ومندداً بهذه الأحداث. واتهامات السلطات للحراك الجنوبي بالارتباط بدعم القاعدة في لودر، تستهدف فقط الإساءة للحراك الذي ينطلق في أنشطته من أدبيات النضال السلمي، الهادف إلى استعادة الحقوق المسلوبة. ومن جهتنا، نتهم السلطات الأمنية بالسعي إلى تفجير الأوضاع في أبين". من جهته، اتهم علي حسن نصار، أحد القيادات الشعبية ل"قوى الحراك الجنوبي" في "أبين"، السلطات الأمنية ب"شن حملة اعتقالات في أوساط ناشطين في الحراك الجنوبي بمديرية لودر والزج بهم في السجون على خلفية المواجهات المتصاعدة في منطقة العماير وتحت مبرر التورط في تقديم دعم لتنظيم القاعدة"، موضحا أنه "اعتقلت السلطات العشرات من ناشطي الحراك الجنوبي في لودر تحت مبرر تقديم الدعم لتنظيم القاعدة والمشاركة إلى جانب المجاميع التي وقعت معها مواجهات في لودر، والتي لا تزال مستمرة. وهذا يعد خلطا مفتعلا للأوراق ومحاولة لاستثمار أحداث لودر في ضرب قوى الحراك الجنوبي التي تعتمد في أنشطتها على الخيار السلمي وليس اللجوء إلى العنف أو المشاركة فيه".