كانوا يعيشون في ذلك الحي القديم أسرة واحدة؛ الجيران إخوة يجمعهم الحب وصدق المشاعر، رغم كل الظروف القاسية التي يعانونها، إلا أن السعادة تسيطر على أجوائهم، والفرح يطرز أيامهم البائسة. شظف العيش وقلة الإمكانات، لم تزدهم إلا محبة، يعيشون في بساطة، وفي فقر شديد، يعانون الحرمان، وجوههم الشاحبة تنطق بقسوة الأيام، ومع ذلك تجد الابتسامة ترتسم على شفاههم الذابلة. عاشوا الحياة بكل أشكالها؛ فيوم تضحك لهم، وسنين تضحك عليهم، أحبوا بعضهم البعض، كانوا يدا واحدة في مواجهة مصاعب الحياة، لا تجد من يشتكي أو يندب حظه؛ لأنهم يؤمنون بالقدر ويثقون في رحمة الله. كانت قلوبهم صافية بعيدة عن الحقد. كانت القناعة شعارهم. التزموا بقواعد الحياة الكريمة من: التواضع، والحب، والصدق، والكرم، والترابط الأسري الجميل، حتى إنهم استطاعوا هزيمة كل الظروف المحيطة بهم، وزرعوا السعادة قي دروبهم القاحلة، وابتسمت لهم الأيام، وعاشوا الحياة الهانئة السعيدة الصادقة. .. وفجاه هبت رياح التطور سريعا، وحولت عالمهم الجميل إلى أطلال، فتبدلت الأنفس، وتلونت الوجوه، وتقلبت القلوب، وبدأ التنافر والتباغض بين الجميع، فانتشرت الكراهية في سماء كانت من قبل صافية، وتحولت البيوت الطينية القديمة إلى قصور، وزاد النفور والغرور، وبدأت حمى التنافس، وجمع الأموال تشتعل في العقول. المشاعر الصادقة أصابها الذبول، وزحفت جيوش الحقد تعبث في القلوب، وأصبح القريب عدوا، وهو في الأمس أغلى حبيب، وتقطعت حبال الود بين الجميع، ومات الحب، وتغير طعم الحياة، وضاع كل ما هو جميل، في زمن جديد لم يعد يقدر قيمه أي شيء، زمن لا يرحم صغيرا، ولا يوقر شيخا كبيرا، زمن جديد قضى على كل شيء صادق، زمن كانوا يظنونه الأجمل والأفضل، ولكن على العكس، أصبح الجميع غرباء في هذا الحي، وماتت كل أحلامهم، وأخذ الجميع يتحسرون على تلك الأيام الخالية التي لا يمكن استرجاعها، ولسان حالهم يقول: ليتنا لم نتطور، ليتنا عشنا كما كنا فقراء محرومين قنوعين طيبين، فكل ما جلبه لنا هذا التطور هو الدمار الشامل لكل علاقاتنا، فأين الحب، وأين الترابط، وأين المودة، وأين الأخوة الصادقة، وأين السعادة؟ كلها ماتت وحل بدلا عنها الجشع والأنانية وحب الذات والنفاق والحسد والحقد والتباغض بكل أشكاله وألوانه ومسمياته.. فليتنا لم نتطور!