في كتابه "اُقتل رجلاً اِرفعْ جمجمتَه عاليا" يطلّ الشاعر فيديل سبيتي على قارئه في وضعية متبلبلة متبرمة، يأخذه التململ والقلق كل مأخذ. يقول في أحد نصوصه "يعشق رجل القلق أن يمضي وقتاً برأسٍ مفتوح"، والفتح في الرأس هنا بمعناه المادي؛ تفريغ الرأس من علّته؛ من الدماغ موطن القلق وباعث الضجر وحلبة النزيف اليومي، وذلك طلباً لراحة لا تكتمل ولا تأتي إلا بالانتماء إلى طبيعة أخرى وإلى كيانٍ آخر؛ بالاندراجِ في سيرورةٍ تكسّر هذا الشكلَ من الحياةِ الرتيبة وهذا اللون من العيش المُقبِض. غير أن الشاعر من جانبٍ مغاير يتبدّى حريصاً على هذا القلق وعلى استدامتِه، وكأنه بهذا ينجو من الحالة العامة السائدة المنقوعة في الثباتِ والمستمرة في إنتاج تشابُهِها. يجعلُ هذا القلق حصنَهُ يتمترسُ فيه خلفَ عزلتِهِ أو فرديته التي لا تعني الأنانيّة بقدر ما تعني حريّتَهُ. يقول الشاعر "قلقي عيني الثالثة/ وحدَها أحميها/ من المخرز". وهذا القلق الكياني الوجودي له أيضاً عائد جمالي، حيث نشهد فرار فيديل سبيتي من الشكل القار المتيبس ومن السوية الواحدة في الأداء.. في كتابته لا يركن إلا إلى التحول والانتقال من القصيدة السطرية المعتادة إلى قصيدة الومضة إلى قصيدة الكتلة التي يخامرها السرد وتسري فيها روح الحكاية. فيديل السبيتي يشعثه القلق ويبتره الضجر، غير أنه دائماً يجمع شظاياه، ونجده واقفاً على باب القصيدة يتلو "سيرة عاطفيّة لرجل آلي" كتابَهُ الثالث ذخيرتها تأتي من العينِ قبل الفمِ والكلمات؛ ذخيرة هائلة تراكمت من مراقبة الجسد في العالم ومن ملاحظةِ هذا العالم واشتباكه بالجسد أو فعله فيه. اختبار متلاحِق الأطوار ولهُ وَقْعٌ ممتدٌّ كالصرخة التي لطولها وامتدادها ولاتناهيها تخرج من حيز الواقعة والحقيقة وتلتحق بمكانٍ آخر يزوغُ عن التحديد ويعتلي مركبة الوهم الذي تضيع معه حدودُ الجسدِ نفسِه "جسدي يتراءى لي في واجهات الزجاج الملتمعة واقفاً كإنسانٍ أنهى مرحلة تطوّره. إنسان أوّل سقط من الجنة بغتةً. جسد يتقدّمني في الواجهات الزجاجية مزهوّاً راقصاً وكئيباً. يضنيه كلُّ هذا الثقل المنتشر حوله، ثقل كأن عمالقةً علقوهُ في الهواء ليستردّوه عندما يعودون من رحلتهم إلى الجحيم. جسدي علّاقةُ أوهامٍ يركبُها جنيٌّ شقيّ طردتْهُ العائلة". الشاعرُ يتربص بجسدِهِ، يدورُ معه وإصبعُهُ لا تغادر زرَّ التصوير. يتبعُ الوجودَ وينحلُّ في الأطياف ويقتفي الأثرَ الكامنَ في الصورة؛ لا مرئيَّ الجسدِ ينعقدُ فيها وتبوحُ به كما لو كانت خزانة الأسرار يتعرف من خلالها الشاعر عروقَ حياتِهِ المطويّة في يومياته اللاهثة فتنفرج عنها لحظة البطء والانفصال عن الخارج وإطالة التحديق بجسرِ الصورة المركوز في دوامات الهواء تحملُ الجسد وتتخلّلُهُ صانعةً المرآة الداخلية "تمنحنُا التيارات الهوائية التي نصنعُها أثناء مشينا صورتَنا عن أنفسِنا تلك التي نتصوّرُها كلّما تذكّرَ أحدُنا نفسَهُ في مشهدٍ أو في حالةٍ ما. كاميرا الذات تتبعُنا مُذْ بتْنَا نعرفُ أن الصُّوَرَ هي مصدرُ الحياة، وأنّ الأشياء غيرُ موجودة إلا بصورها". "كاميرا الذات" عند فيديل سبيتي عندما نخلعُ عنها ضميرَ المتكلم "نحن" فتغدو خاصّة به وحده فإنّها إذّاك لا تصبح طريقةً لفحص مصدرِ الحياة عبر الصورة، ولكنها عند الشاعر سبيلُهُ الذي يكتشفُ به تبدّدَهُ وهباءَه. الكاميرا المُذخّرة بفيلم الضجر والقلق ماذا ستلتقط؟.. وعند أيِّ حافةٍ سوف توقفُهُ: "لا تكفُّ الهاويةُ عن الصراخ في طلبي، وأنا لا أكفُّ عن الصمتِ والنظر منتظراً مرورَ الحتْفِ على الأرجح". * كاتب سعودي