لا شيء يشبه الصعيد.. حين تنظر لخريطة مصر ستراه خيطا منحوتًا متعرجًا ويتخذ "شكل المعدة" عند مدينة "قفط" بمحافظة قنا الصارمة لدرجة التجهم، ولعل هذه ليست مصادفة فاسم (قفط) تصحيف أو تحريف عامي للأصل المصري الفرعوني "جبط" أخذا بالاعتبار أن الصعايدة ينطقون حرف القاف "جيما غير معطشة"، لهذا فاسم مصر باللغات الأجنبية Egypt خلافًا لأسماء كافة دول المنطقة التي تنطق باسها العربي، ودون الخوض في تفاصيل تاريخ مصر القديمة فإن جذور اسمها مشتقة من كلمة هيروغليفية مركبة (جب بتاح) ومعناها: "جب" أي بيت و"بتاح" أي الخالق العظيم لدى قدماء المصريين، وحرفت عقب الغزو الروماني لتصبح "إيجبتوس" وهي الجذر اللاتيني لاسم مصر بشتى اللغات الغربية. ولعلي لا أبالغ حين أرى خصوصية صعيد مصر الحضارية ترتبط بمعضلة "الهوية المصرية"، التي تنظر للثقافات والحضارات المتراكمة تاريخيًا باعتبارها متوازية غير متعاقبة ومتعايشة متداخلة على ألسنة أهلها فيحسبها الغريب ازدواجية، بينما هي تركيبة لا تنفصل فيها المكونات الحضارية عن بعضها، وإذا تعمد البعض استبعاد الرافد المصري القديم عن روافد أخرى بطلمية ورومانية وعربية أو غيرها، فيحدث الخلل حينما يحاول أنصار إحدى الثقافات فصل أنفسهم عن بقية المكونات الحضارية، مدعيًا الاستعلاء عليها والوصاية وفرض "قداسة ما"، حينها ينقطع النسيج الحضاري، ويحدث الاغتراب عن جوهر الشخصية المصرية. وما يجهله كثيرون أن الصعيد يُعبر بوضوح عن أن مصر ليست مجرد مخزن ثقافات دخيلة عليها، بل ظلت معدةً تهضمها، فالمصري الذي أسس أقدم الحضارات استوعب أن القيم الإنسانية المشتركة تتفاعل معًا في بوتقة واحدة، وأدرك بوعي أن هويته تكمن في منظومته الأخلاقية التي هضمها سواء من ثقافته الموغلة في التاريخ، أو تفاعلها مع ثقافات حملها الذين تعاقبوا عليها لفترات من الزمان امتدت أحيانًا لقرون، لهذا فقد تحلى المصري بمرونة ذهنية ورحابة وجدانية، جعلته يؤمن بأن هذه المفاهيم الأخلاقية، والوعي الحضاري بالحياة ليس ثابتًا لكنه متطور وفق مستجدات الزمان. كما يلزم التنويه أيضاً إلى أن الصعيد بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب من كل ما تنسبه إليه مسلسلات التلفزيون وأفلام السينما حتى تلك التي صاغ حواراتها "الصعيدي" عبدالرحمن الأبنودي، فقد كان ولم يزل صعيد مصر بئراً مترعة بالأسرار، وهنا يقول د. جمال حمدان في معرض مقارنته بين دلتا مصر وصعيدها، إن الأولى تمد مصر منذ دهور بالخيرات والحداثة والمرونة في تقبل الآخر، بينما ظل الصعيد يمد هذا البلد بالرجال، منذ عهد مينا حتى اليوم، وفي كل لحظة تاريخية قلقة تهدد وحدته، يشكل الصعيد "المخزون الاستراتيجي للتماسك"، ورغم ذلك فإن أحداً لم يظلم صعيد مصر كما فعل أبناؤه الذين تربوا بين حقوله وعلى ضفاف نهره ووفق تقاليده الصارمة، لكنهم قرروا الرحيل عنه إلى الأبد، ليتخلوا عن دورهم في تنميته والارتقاء به، كأن قدر هذه البقعة في مصر هو أن تظل مرتعًا للتخلف والفقر والعصبية والقبلية، فكل من أظهر تمايزًا أو بشّر بنبوغ التهمته المدينة التي لا تشبع أبداً، لذلك ظل صعيد مصر بئرًا مترعة بالأسرار والخبايا في حياة المصريين، لا أحد يستطيع وربما لا يريد فك شفرتها وحل ألغازها وفهم المفارقات المحاطة بقدر هائل من سوء النوايا، سواء في الفهم أو التعامل معها.. أو على أدنى تقدير التجاهل العمدي لها. وتجدر الإشارة إلى التقرير المشترك للأمم المتحدة ومصر حول أهداف الألفية الثانية، الذي أكد ارتفاع أعداد الفقراء في مصر، وأن ثلثي المواطنين في الصعيد جوعى لا يجدون الغذاء، وأشار التقرير لوجود 10،7 ملايين مواطن لا يحصلون على الطعام، وعد محافظة أسيوط أكثر محافظات مصر فقرًا، وأوضح التقرير ارتفاع نسبة الفقراء بصعيد مصر إلى 63،49% من السكان، وتوقع استمرار مستويات الفقر كأعلى نسبة لها بمحافظاتأسيوط وبني سويف وسوهاج. من التسامح إلى المجازر ولم تكن "مجزرة أسوان" التي هزّت مصر الأولى، ولا الأخيرة، لكنها مجرد محطة في طريق طويل، بل تضيف سؤالاً جديداً لسلسلة طويلة من التساؤلات التي تحاصر الخارطة الاجتماعية والحضارية لصعيد مصر، تبدأ بهذا السؤال: لماذا أصبح "الصعيد" رمزا للعصبية والغضب والدم، وكيف أصبح "الصعيدي" الفلاح المسالم قادرًا على القتل بلا هوادة سواء في حوادث الثأر والإرهاب، وأحياناً شاهداً أخرس في جرائم قتل ترتكب أمام ناظريه وتمر ببساطة.. وهل أغرق الدم حقول الصعيد وعقول أهله.. قبل أياديهم؟، ولماذا يقدم "الصعيدي" على القتل سواء في جرائم الثأر أو حوادث الإرهاب باختصار: لماذا أدمن الصعيد الدم، وإلى أي مدى تغيرت الأعراف الاجتماعية الصارمة التي طالما حكمت الصعيد بقبضة حديدية طيلة قرون مضت، وكفلت العيش المشترك بسلام؟ بدأت أحداث أسوان الدامية أقصى جنوب مصر التي اشتهر أهلها بالتسامح لاختلاطهم المستمر بالسياح الأجانب، كما لعب التنوع الديموغرافي دوره بترسيخ التصالح، فهي تضم قبائل نوبية، وأخرى تنتمي لجذور عربية مثل "الهلايل" أو "بنو هلال"، التي يقول شيوخها إنها قبيلة عربية "قيسية مضرية عدنانية"، قدمت من قلب نجد لصعيد مصر منذ قرون. كانت أولى فصول المذبحة يوم الأربعاء الثاني من أبريل الماضي بمشادة كلامية بين طلاب مدرسة أسوان الثانوية لكتابة أحدهم عبارات مسيئة على جدران المدرسة، وتطورت لاشتباكات بالأيدي، فتدخل العقلاء لاحتواء الأمر، ولكن في اليوم التالي الخميس عاود بعض أبناء "الهلايل" كتابة عبارات مسيئة على جدران "جمعية دابود" محل اجتماعات القبيلة النوبية فحاولت إحدى سيدات العائلة منعهم وتجددت المواجهات، وأطلق شقيقان من عائلة "الهلايل" نيران أسلحتهما الآلية مما أسفر عن مقتل أربعة أشخاص وإصابة ثمانية آخرين من عائلة "دابود" النوبية. يتفق الجميع ممن تحدثت معهم من أهالي المنطقة على تراخي أجهزة الأمن بإنهاء الأزمة وتحديد الجناة، مما أشعل العصبية القبلية، ليشهد صباح الجمعة الرابع من أبريل مهاجمة عائلة "دابود" لمنازل "الهلايل" وأحرقوها وأطلقوا النيران على من فيها وتعدوا عليهم بالأسلحة البيضاء مما أسفر عن مقتل أربعة عشر شخصًا من "الهلايل"، وهكذا تصاعدت الاشتباكات فهجم مسلحون من "الهلايل" على منزل أحد النوبيين وأحرقوه وأسروا الرجال بداخل جمعيتهم وذبحوهم وعلقوا جثثهم على بابها وأشعلوا النيران بإطارات سيارات ليمنعوا الإسعاف من الدخول وأسفرت الاشتباكات عن مقتل 7 أشخاص آخرين اثنان من "الهلايل" وخمسة من "دابود"، ليقترب إجمالي القتلى من 30 شخصًا ونحو 50 مصابًا من الجانبين. ويتحدث السكان المحليون بأسوان عن ضابط كبير ينتمي لقبيلة "الهلايل" ساعدهم في تسليح أنفسهم بشتى أنواع السلاح سواء الذي يجري تهريبه من ليبيا أو السودان، بالإضافة لتهريب المخدرات التي صارت تجارة "الهلايل" بحماية ابنهم الضابط الذي استمر مواليًا لجماعة الرئيس السابق محمد مرسي حتى بعد سقوط نظام حكمه دون اتخاذ موقف رسمي ضده إلا بعدما فاحت رائحته وذكرت وسائل الإعلام المصرية اسمه صراحة، ويُذكر أن أبناء "الهلايل" يشاركون في مظاهرات لتأييد الإخوان بأسوان بمقابل مادي، بينما لم يكن النوبيون يومًا من مؤيدي "الإخوان" أو غيرهم من الجماعات الإرهابية التي عشعشت زمنًا بالصعيد. حادثة "شرف" تقودنا "مجزرة أسوان" لوقائع مماثلة سنتعرض لبعضها فقبل بضعة أعوام شهدت مدينة "جرجا" بمحافظة سوهاج في قلب الصعيد مجزرة لا تقل ضراوة عما حدث بأسوان، وكانت بين قبيلتي "الحلايمة والحناشات"، وراح ضحيتها خمسة وعشرون قتيلاً، وعشرات الجرحى وهذه وغيرها مجرد محطات في سلسلة جرائم الثأر التي تبدو دائمًا كالنيران المستعرة تحت طبقة رقيقة من الرماد، وعقب تحولات ما بعد 25 يناير انفجرت قنبلة الثأر الموقوتة، شأن غيرها من الصراعات الاجتماعية والسياسية والجيلية والطائفية وغيرها. ولعل كثيرين لا يعرفون أن أكبر قضايا الثأر التي لا تزال قائمة حتى اليوم جرت بين "البلابيش والحميدات" بقرى مركز دشنا في محافظة قنا قد بدأت بواقعة "تبول" رجل مُسّن! ورغم وجود أسباب أخرى معلنة أكثر وجاهة إلا أن ذلك يعكس عشرات الدوافع في التكوين الثقافي والاجتماعي للصعيدي، فقد بدأت الحكاية إثر مقتل أحد أعيان البلابيش على يد شقيقين من الحميدات وكان القتيل وهو رجل تجاوز الثمانين من عمره في طريق عودته لمنزله وأثناء مروره بجوار منازل الحميدات داهمته رغبة سببها المرض في التبول بجوار جدار أحد المنازل، وبمنتهى البساطة "فعلها"، وشاء سوء الحظ العاثر أن تخرج إحدى النساء لقضاء بعض حاجاتها فشاهدته وفزعت وأطلقت العنان لصوتها تصرخ صرخات مدوية خرج على إثرها زوجها وشقيقها اللذين ظنا أن الرجل يحاول الاعتداء على المرأة فانهالا عليه ضربًا بالعصي والهراوات حتى أردياه قتيلاً، ولم تشرق الشمس حتى وارى أبناؤه جثته والتزموا الصمت، فلم يبلغوا الشرطة بالطبع، ولم ينصبوا سرادق عزاء ولم يسمحوا للنساء بالبكاء، لكن ما كان يدور في مجالسهم السرية أمرا وحيدا هو: "الثأر". تقاليد الثأر وهذا يسوقنا للنبش في قواعد الثأر وتقاليده وحساباته، فهذا القتيل أب لستة أبناء من وجهاء البلابيش ورثوا عنه المال والأرض الشاسعة والنفوذ والإحساس بالاستعلاء على خصومهم، وهو شعور عام لدى البلابيش، مرجعه أصلهم العرقي المنحدر من المماليك، في حين ينتمي الحميدات إلى قبيلة نزحت إلى الصعيد من الجزيرة العربية، والمعلوم أن العداوة بين المماليك والعرب تضرب بجذورها في أعماق التاريخ والنفوس، وفي ظل هذه العلاقة المتنافرة بدأ مسلسل الخصومة الثأرية حينما قرر وجهاء "البلابيش" القصاص لقتيلهم بخمسة رجال من أعيان الحميدات دفعة واحدة وفقا لحساباتهم التي جرت على النحو التالي: إن قتيلهم كان كبيرهم، وهو ما يعني أن رأسه تساوي رجلين، وإن قتله وقع بجوار منازل الخصوم، وهذا يعني إضافة رأس ثالث، وإن رجلين شاركا في قتله وهذا يقتضي الرأس الرابعة، وأخيرا فإن هذه الواقعة تمثل سابقة في الاعتداء عليهم، فلا بد لردعها من إظهار المزيد من العنف والردع، وهو ما يستوجب المزايدة برأس خامسة، وهذا ما حدث بالفعل ففي الليلة الثالثة سقط خمسة رجال من وجهاء الحميدات دفعة واحدة وفي التوقيت نفسه. وتقدم رجلان من "البلابيش" لضابط مباحث مركز دشنا يعترفان بقتل هؤلاء الخمسة ويبديان استعدادهما للمثول أمام النيابة للاعتراف بتفاصيل الحادث وتسليم الأسلحة المستخدمة في الجريمة، وهنا وجد ضابط المباحث نفسه أمام قضية غامضة، فهي منتهية من الناحية القانونية لكنها تنبئ عن توتر أمني حاصل، وتلوح بالمزيد من حوادث القتل المتوقعة ، فهذه النتيجة لن تكون مرضية أو مشرفة للحميدات الذين عقدوا العزم على قتل أربعة من رجال البلابيش حتى تتساوى كفة الميزان، وعلى الرغم من الهدوء الظاهري الذي التزم به الجميع في مدن (فاو والوقف والسمطا) غير أن الشائعات أخذت تنتشر هنا وهناك عن الضحايا المرشحين للثأر، مما دفع رجال الأمن إلى ضرورة اتخاذ موقف حازم لإيقاف نزيف الدم، فدعا المحافظ ومدير الأمن وضباط المباحث كافة الأطراف إلى جلسة صلح عرفية ولم يرفض الجانبان هذه الدعوة بالطبع، فهم يدركون أنها لن تكلفهم أكثر من وليمة فاخرة وأن قبولها يعني إثبات حسن النوايا لتحييد جانب الشرطة والحكومة اتقاء لتدخل طرف ثالث قد يفسد الأمور في حساباتهم الثأرية، وهكذا انعقد "ميعاد العرب" في دوار أحد أعيان عائلة من "الهوارة" وهم طرف محايد في هذه القضية وحضر المسؤولون من المحافظ ومدير الأمن ومدير المباحث وأعضاء مجلس الشعب (البرلمان) وغيرهم من كبار "شيوخ العرب" وأعيان العائلات، وأقيمت وليمة ضخمة، وقرأ الجميع الفاتحة وانصرفوا، ولكن قبل أن يصلوا إلى قنا كانت أنباء مصرع ثلاثة من رجال البلابيش قد سبقتهم، وملأت المكان برائحة الدم، فقد توجه عدد من "بني حميد" إلى القاهرة والإسكندرية لينفذوا قرار الأسرة بقتل ثلاثة من كبار تجار البلابيش، واستدعى مدير الأمن كبير الحميدات لمكتبه وثار في وجهه واستنكر أن تقع هذه الجرائم بالجملة بعد صلح رسمي، وأكد أن ما حدث يعد استهتاراً بالنظام والحكومة والقانون، واستهانة بأقدار الرجال الذين شهدوا الصلح بين العائلتين، ومضى يهدد الرجل باعتقال كبار رجال الحميدات وتجريدهم من أسلحتهم المرخصة وغير المرخصة، وهنا رد عليه شيخ القبيلة بقوله: إن ما حدث لم يكن إلا قصاصاً عادلاً في حرب تستهدف الحصول على حق العائلة لا أكثر ولا أقل وأن الحرب خدعة بطبيعتها، وإن كل شيء مباح في الحرب، وأضاف مستنكراً أن يغضب "سيادة اللواء" وقد وقعت عمليات الثأر في القاهرة والإسكندرية، ولم تحدث في قنا احتراماً لوجوده، وهكذا انتهى هذا اللقاء إلى لا شيء. الاستئجار للقتل وعلى الجانب الآخر من هذه المعركة الدامية كان رجال البلابيش يبرمون اتفاقيات ومؤامرات مع بعض "المطاريد" من ذوي السوابق الإجرامية والهاربين من أحكام جنائية مغلظة تصل للإعدام والسجن المؤبد، ممن اشتهر عنهم "الاستئجار للقتل" على القيام بمهمة الثأر نيابة عنهم، بمقابل مالي سخي لن يشكل عبئاً عليهم وهم العائلة الثرية ذات النفوذ والسطوة، وهذه الاتفاقات تتم وفقا لقواعد واعتبارات بالغة التعقيد فكل رأس لها سعر يرتفع وينخفض وفقاً للمكانة الشخصية والاجتماعية للضحية، وتدخل في الحسبان أيضا قدرات المطالبين برأس الضحية وكفاءتهم المالية، ومدى حاجتهم للقصاص.