بعد تخرجه من الجامعة عام 1977، ونشره كتابات في صفحات الملحق الثقافي بجريدة "الصحافة" السودانية، عمل في بلده السودان لفترة عامين فقط، قبل أن يحزم حقائبه، إذ واتته الفرصة للعمل مترجما في وزارة العدل. شد رحاله إلى السعودية، محملا بفكرة، يغذيها جهل فاضح مفضوح حسب تعبيره بأنه ليس في السعودية سوى البترول والريال والناقة. كان هذا الجهل من القوة بحيث ظل الكاتب حامد بدوي "المقيم حاليا في سلطنة عمان" ردحا يعتقد أن ذلك الشعر المدهش، وتلك القصص القصيرة الرائعة التي يعثر عليها في الصحف السعودية، لا بد أن تكون بأقلام مغتربين، ربما فلسطينيين أو عراقيين أو شوام. بدوي الذي أسهم في الحراك النقدي الثقافي السعودي خلال حقبة الثمانينات، استعاد الحنين لتلك الحقبة، في حوار مع "الوطن".. هنا نصه: بعد أن قضيت عقدا من الزمن في المملكة، كيف تغيرت تلك النظرة الجاهلة حسب وصفك؟ الطريف في الأمر هو أنني وبعد أن اكتشفت مدى جهلي وتواصلت مع الساحة الثقافية السعودية متعلما أكثر مني مشاركا، وصل من السودان صديق يحمل نفس الفكرة الخاطئة عن الأدب في السعودية. فرأيت أن الحديث والشرح لن يجدي معه، ولا بد أن أفاجئه. كنت أعرف أن التشكيلية السعودية، شادية عالم، شقيقة الروائية الكبيرة، رجاء عالم، تقيم معرضا في صالة بمدينة جدة. فأخذته إلى هناك. نزلنا من السيارة وسرت وسار خلفي إلى أن دخلنا الصالة. ولحسن الحظ كانت رجاء عالم هناك ولفيف من الشباب المثقفين. ومباشرة دخل الجميع في النقاش حول اللوحات المعروضة. ومن طرف عيني كنت أرصد الدهشة والعجز عن الفهم على وجه صديقي. ولم لم يعد يحتمل المفاجأة، اقترب مني وسألني: أين نحن؟ نظرت إليه بتساؤل، فأوضح : في أي بلد نحن؟ بالطبع لم أجب عن سؤال إجابته فيه. بالدقة، كان حالي خلال الأعوام الأربعة الأولى لي في السعودية هو نفس حال هذا الصديق. العالم العربي كان جزرا متباعدة لا يدري أهل إحداها ماذا يدور في الأخرى. وربما حتى الآن. هل تتصور أنني لم أقرأ للروائي الليبي، إبراهيم الكوني، إلا بعد الثورة الليبية؟ وكم دهشت حين عرفت أنه قد نشر ما يزيد عن الستين رواية، ونحن لنا حدود مشتركة مع ليبيا! فإذا كان هذا يحدث الآن، فما بلك بالثمانيات؟ * وكيف تعرفت على الوسط الثقافي عقب ذلك؟ مدخلي كان عبر مواطني المرحوم محمد الطيب، عرفني بالمرحوم محمد الثبيتي وفايز ابا، والشاب المشتعل حينها، مصطفى إدريس. بعدها وجدت نفسي وسط المعمعة، وحاولت أن أسهم في الحراك الثقافي، وأن أتعلم في نفس الوقت. كيف لا وقد عاصرت عقولا نقدية جبارة مثل الدكتور عبدالله الغذامي، والدكتور سعيد السريحي، الذي قال عنه المرحوم محمد الطيب، إنه لم يصادف في حياته ناقدا بذكاء سعيد السريحي. كنت تعمل مترجما في محكمة بمكة المكرمة، ونشأت علاقة بينك وبين الثبيتي، كيف؟ تسألني عن شكل صداقتي بمحمد الثبيتي، الذي أبى إلا أن يكون ألما وحزنا مقيمين معي حتى ألحق به. آخر مرة قابلته، قبل وفاته بأقل من شهرين. جاء إلى مسقط، حيث أقيم وأعمل، وذلك بدعوة من النادي الثقافي. قرأ شعره الذي أذهل الجميع، كالعادة. أنزلوه بفندق فخم، وفي الليلة الأولى التي التقينا فيها أخذ شطنته وترك الفندق ليقيم معي ليلتين في شقتي المتواضعة. بعد عودته بأسبوع اتصل بي وأثناء الحديث قال لي إن شخصا يريد أن يسلم عليك، وأريدك أن تعرف من هو. ومن أول كلمة نطقها ذلك الشخص، قلت له أنت فهد الخليوي. كيف حدث ذلك، حتى الآن أنا لا أدري. فأنا لم ألتق فهد الخليوي في حياتي أكثر من مرتين أو ثلاث في جدة، رغم أنني قد تناولت بعض قصصه بالقراءة. بعد ذلك مباشرة أتتنا الأخبار المفجعة. الثبيتي نعى نفسه في قصيدته، موقف الرمال موقف الجناس: " إنِّي رَأَيتُ.. أَلَمْ تَرَ !؟ عَينَايَ خَانَهُمَا الكَرَى وسُهَيلُ أَلْقَى فِي يَمِينِ الشَّمْسِ مُهْجَتَهُ وولَّى، والثُّريّا حَلَّ في أَفْلاَكِهَا بَدْرٌ شَآمِي" إنه هو هذا البدر الشآمي الذي ارتحل عنا وحل في أفلاك الثريا. ألا رحمه الله بقدر ما أعطى لوطنه ولأمته. كنت ضمن نقاد الأدب الحديث وتعمل في محكمة شرعية، ألم تواجهك مضايقات؟ نعم كنت أعمل بفرع وزارة العدل بمكة، ونعم كان البعض يلصق بمن عرفوا حينها بالحداثيين، تمييزا لهم عن التقليديين، أفظع التهم التي تصل أحيانا إلى التكفير. لكن "ربعي" في وزارة العدل والمحكمة، لم يكونوا يقرؤون "الخرابيط" التي تنشر في الملاحق الثقافية، حتى إنه لم يكن فيهم من يعرف أنني كنت أكتب في الصحف. جار لي في الحي الذي كنت أسكن فيه، وكان مديرا لمدرسة، وكان مهتما بالثقافة. هو الآخر لم يكن يعرف أنني أكتب بالصحف، وأنني حداثي، فراح يذم لي الحداثيين ويقول فيهم ما لم يقله مالك في الخمر. وذكر لي أسماء اثنين من أعز أصدقائي "المرحومان عبدالله باهيثم ومحمد الثبيتي". بل قال لي إنه سمع أن للثبيتي هذا صديق سوداني، يترجم له شعر الإنجليز، فيدخل عليه الثبيتي بعض التعديلات وينشره باسمه. لم اهتم كثيرا فقد صادفت في السودان من هم أكثر بعدا عن حراك عصرهم من ذلك الجار. أمثاله موجودون في كل مجتمع. فكما أن هناك صفوة متطلعة للثقافة وجديد الثقافة، هناك دائما صفوة معادية للثقافة. عادي. الآن وبعد مضي كل ذلك الوقت، ماذا بقي من تلك الحقبة في قلبك وذاكرتك؟ تسألني، ماذا تبقى لي من تلك الأيام؟ "يا رجال"، قل ماذا لم يتبق أو ماذا ذهب منها. لا شيء، هي باقية حية، أتذكر كل لحظة فيها بصفاء غريب. فيها قرأت كتبا كثيرة شكلت جزءا كبيرا من وعيي. أتيت إلى السعودية شابا غرا متلهفا للمعرفة، وعدت منها كهلا يحتقب تجربة لا بأس بها. وأقول لك أهم ما تعلمت في السعودية: تعلمت أدب الحوار والنقاش. وتعلمت التواضع. كنا ندير ورشة عمل أسبوعية، وهي من ابتكارات الغذامي. كنا نتناول في كل أسبوع نصا جديدا "قصيدة أو قصة قصيرة". وأصرالغذامي على أن تكون إدارة الندوة بالتناوب. ما كان الأمر سيثير أي غضاضة لو انفرد هو بإدارة النقاش. فقد كان بمثابة الأستاذ بالنسبة لنا جميعا، وجلنا خريجون جدد، وهو الأستاذ الجامعي. لكنه أصر على مداولة إدارة النقاش. الآن لا أظن أنني في حاجة لأجيب عن سؤالك حول ما إذا كنت مؤمنا بصدق وعمق الإبداع في تلك المرحلة. هل يمكن القول إن الثقافة السودانية أسهمت في حراك الحداثة السعودية؟ إن محمد الطيب وعكاشة وأنا كنا "متفاعلين" لكن ضمن ذلك التفاعل، أعتقد أننا كنا مستفيدين أكثر منا مفيدين. ومقولة الثقافة السودانية نفسها لي عليها تحفظ. هل تعلم بينما كنا ندافع عن وندفع بحركة الحداثة في الثمانينات، كان هناك مثقفون سودانيون، يحمل بعضهم الدرجات العلمية العليا، يكتبون في بعض الصحف السعودية مدينين للحداثة والحداثيين. تداخل الساحات الثقافية أمر معقد جدا. ويحضرني الآن ما كان يلاقيه الدكتور لطفي عبدالبديع كحداثي، على أيدي بني جلدته من الأساتذة المصريين المعادين للحداثة.... هل تذكرونه؟ كان يشرف على رسالة سعيد السريحي لنيل الماجستير. نعم يا صديقي، ليس هناك ساحة ثقافية موحدة ونقية. هو هو نفس الصراع السرمدي إلى يوم الدين بين المقيمين على ما وجدوا عليه آباءهم، وبين المتطلعين إلى الجديد عبر كل الحدود والحواجز. والفريقان موجودان في كل المجتمعات. وسيظلان. يتذكر البعض أنك راهنت على أسماء إبداعية كانت ناشئة في حينها؟ أنا راهنت على عبده خال، وأنه هو الذي سيكتب الراوية السعودية الحديثة. قلت هذا وكان هناك من سبقه، فقد كتبت رجاء عالم أكثر من رواية حينها، وكان المشري رحمه الله قد أصدر روايته "الوسمية". ومع ذلك كنت أراهن على خال الذي كان ما يزال طالبا بالجامعة، ولم يكتب سوى بضع قصص قصيرة. ما حدث مني لم يكن كلمة خرجت بالصدفة. فقد كانت لي تجربة مع كتابات خال أقنعتني بأن روائيا ضخما يختبئ داخل هذا الجسد النحيل والسلوك الطفولي جدا. أقص عليك القصة "دون أن "أقص" عليك". فلن يتضح سبب رهاني على خال إلا من خلال هذه القصة. أول عمل تناولته نقديا في السعودية كان قصة قصيرة لخال بعنوان "أحني حنجرة الأغنية". ولأنه أول ظهور لي في الساحة، حاولت أن أجتهد في قراءة النص. بحثت عن مدخل للقراءة، فهالني أن القصة تتيح عدة مداخل، وهذا دليل على اكتنازها. الآن أقرأ مما كتبت عن المدخل لقراءة تلك القصة "أنا أحتفظ بقصاصات من الصحف لكل ما ينشر لي". كتبت في البداية: "منذ البداية تراءت لي عدة قراءات أو لنقل منطلقات لقراءات ممكنة لهذه القصة. وأنا زعيم لكل من يستوحي في هذا القول تقريظا لعبده خال. فلقد فكرت أولا في الأصوات، وما يمكن استقراؤه من خلالها باتخاذها محورا للقراءة، وفكرت ثانيا في بحث العلاقة بين عدة عناصر أساسية بالقصة، بخلاف الأصوات. وثالثا فكرت في الأفعال الواردة في القصة واتخاذها محورا للقراءة عن طريق تصنيفها إلى سالب وموجب، فوجدت لدي قائمة طويلة من الأفعال الموجبة تقابلها قائمة أصغر تضم الأفعال السالبة، ثم اكتشفت أن كل فعل سالب واحد في القصة، يهدم تاريخا كاملا من الأفعال الإيجابية. ورابعا فكرت في دراسة متناقضات أخرى غير الأفعال تحيط دراستها بكل أبعاد القصة، ولكني قررت أخيرا أن احتفي بتكنيك القصة، وأن اهتدي به مؤشرا لفهمها. وذلك عن قناعة بأن التكنيك وحده هو الذي يعطي لكل قصة تفردها واختلافها، وهو وحده مناط ابتكار الكاتب. فمعرفة التكنينك هي معرفة كتابة القصة.........الخ. يتضح لك مما تقدم القدرات الهائلة في الكتابة السردية التي تستوطن خال منذ صغره. تصور فقط أنني لو "ركبت رأسي" وقرأت تلك القصة من جميع هذه المداخل لألّفت كتيبا نقديا متوسط الحجم حول قصة قصيرة واحدة. بعدها صرت أتابع كتابات خال بشغف. وفي كل مرة يثبت لي أنه أحد ملوك التكنينك. وما كنت أريد أكثر من هذا لأراهن عليه. فالعمود الفقري في فن كتابة الرواية هو ابتكار التكنيك. * ماذا.. هل ما زلت على تواصل بالمشهد الثقافي السعودي؟ لن أكذب عليك، تواصلي ضعيف جدا ومتابعتي معيبة. لماذا؟ مشاغل الحياة.. الأولاد كبروا وصاروا بالجامعات والضغط تضاعف. لكن الحنين ما يزال مقيما. وماذا عن تجربتك الروائية التي لم تكشف عنها إلا بعد مغادرتك السعودية؟ تجربتي الروائية، حتى الآن لم تبلغ الحجم الذي أطمح إليه. كتبت رواية بعنوان "مدينة النهر الميتة"، وقدمتها لجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي في دورتها الأولى عام 2003، التي ينظمها مركز ثقافي أهلي لا علاقة له بالحكومة، هو مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي. جاءت روايتي بالمركز الثاني ومنحت جائزة تقديرية، وكانت الجائزة الأولى من نصيب الروائي الكبير أمير تاج السر. هذه الرواية طبعت العام الماضي في طبعتها الأولى بعنوان "جويكرة حزن النهر". ثم كتبت روايتي الثانية وهي بعنوان طويل: "مشروع إبراهيم الأسمر الروائي"، وأيضا قدمتها لجائزة الطيب صالح في دورتها الخامسة عام 2007، ونالت الجائزة الأولى، وطبعت على حساب المركز المنظم للمسابقة. أعمل منذ أكثر من عام على الرواية الثالثة، ولا أدري متى تكتمل فأرتاح منها، ويبدأ التعب مع التالية لها. فالكتابة لمن يصاب بها، مثل السباحة لمن وجد نفسه ملقى به في اليم، أمر إجباري لا خيارك لك فيه. وكيف ترى المشهد الثقافي في السودان؟ إنه ينشحذ بالتضييق والكبت، لكن جذوره تمتد بين شقوق الصخر إصرارا على الحياة. أسماء كثيرة تظهر كل يوم. شباب يتفجرون جرأة. كتابات مذهلة. لكن النشر عقبة كبرى. النشر داخل البلاد مضيق عليه، وبالخارج الناشرون. والناشرون الآن هم من عينة "الناشران" اللذين ذكرهما سعد الدوسري في قصته "الناشران". الناشرون ينشرونك وهؤلاء الشباب المبدعين الجدد في السودان لا طاقة لهم بهذا النشر. وبارك الله في المواقع الإسفيرية، فهي منفذ مجاني للنشر. أشير هنا إلى أمير تاج السر، روائي كبير، يمتاز بالصبر والمثابرة اللذين يفتقر إليهما الكثيرون وأنا أولهم. ويمتلك أمرين لا بد للروائي الجيد منهما، الخيال الرحب والإبداع اللغوي، أعني نحت تراكيب جديدة والابتعاد عن السرد العادي والمكرر. لكن ثمة روائي سوداني آخر خطير.. حتى أخطر من الطيب صالح حسب ظني، اسمه عبدالعزيز بركة ساكن، نشر عددا جيدا من الروايات التي ترجم بعضها إلى لغات أخرى، أرجو أن تقرؤوا له.