يتصرف البعض أحيانا مثلما تتصرف النعام في دفن رأسها في التراب كي يتهربوا من الحقيقة لأنها عادة إما أن تكون موجعة أو أن البوح بها لا يخدم مصالح طرف معين. فما يحصل في العراق هو آخر فصل في تفكيك دولة مر على إنشائها ما يقارب القرن بحدودها الحالية وتحويلها إلى أشلاء وتكوينات سياسية مجتزئة لا يربطها شيء سوى الاسم. إن دولة القانون التي بشر بها المالكي في بداية تسلمه للسلطة تحولت إلى دولة تقودها ميليشيات وتشتتها الولاءات الطائفية والمذهبية وأخيرا المناطقية.. ومع ذلك فهو مستمر في دعواته الإعلامية لدولة القانون والمواطنة، ودعواته هذه عادة ما تكون موجهة للطرف الرافض له (الطرف السني) فقط، بينما الطرف الموالي له (الطرف الشيعي) مطلق اليدين، يفعل ما يريد في الوقت والمكان اللذين يريدهما. وبنظرة سريعة على تناقضات المالكي (الوطنية) نستطيع أن نتوصل للحقائق التالية: - الوطنية التي يدعيها المالكي تعبر بشكل أو بآخر عن وطنية السلطة التي تفرضها على المجتمع حسب توجهاتها هي (وفي حالة المالكي هي توجهات مذهبية)، أي أن المواطنة عنده هي رضوخ جميع المكونات العرقية والمذهبية والدينية والانصياع لما يؤمن به هو، وبخلافه فإن الجميع إرهابيون.. تماما مثلما كان يتصرف سلفه صدام حسين. - لا يمكن لسياسي منتم لحزب يؤمن في عقيدته المذهبية السياسية بسيطرة المذهب على الحكم أن يدعو إلى دولة مواطنة يكون المواطن فيها متساويا في الحقوق والواجبات في الوقت الذي يعاني هو نفسه من عقد تاريخية سياسية تربى عليها. - دعوة المواطنة الذي يدعو لها المالكي تتناقض مع ما يجري في الواقع من تزايد نفوذ المليشيات الشيعية التي تشترك معه في العقيدة للحد الذي أصبحوا فيه يستهترون بمؤسسات الدولة الرسمية، فقد أشارت الأخبار قبل أيام إلى قيام زعيم عصائب أهل الحق باستقبال شيوخ عشائر حزام بغداد الذين طلبوا منه إمدادهم بالأسلحة لقتال داعش والتنظيمات الإسلامية الأخرى.. أي أن هذه المليشيات الشيعية قد حلت محل وزارة الدفاع العراقية والأجهزة الأمنية للدولة. - إن محاربة المالكي للمليشيات السنية الإرهابية وغض النظر عن المليشيات الشيعية التي لا تختلف كثيرا عن مثيلاتها السنية تشير إلى أن الحرب هذه ليست حربا على الإرهاب بقدر ما هدفها إسكات الصوت الآخر المعارض له وستتحول قريبا إلى حرب شاملة ضد أي طرف معارض آخر وبحجة الإرهاب نفسها. - لقد سرب قبل أيام وبالتزامن مع الحملة في الأنبار، خبر اعتقال البطاط زعيم مليشيات حزب الله دون أي تفاصيل عما توصلت إليه التحقيقات معه، ليس هذا فحسب بل إن تنظيمه هدد الحكومة لإطلاق سراحه دون أن تكون هناك أي ردة فعل رادعة من قبل أجهزة المالكي لهذه التهديدات، وبعد أيام ذكرت مصادر خبرية إطلاق سراحه ولم تنف الحكومة هذا الخبر. إن هذه الممارسات تنمي روح الكراهية والحقد لدى الطرف السني ولا تجعله يحس بالمواطنة الحقيقية ولا لانتمائه إلى دولة تصان فيها كرامته وحقوقه. - إن إطلاق أسماء لمدن جنوبية ذات أغلبية شيعية على تشكيلات القوات المسلحة التي قاتلت في الأنبار مؤخرا يشير وبوضوح إلى رغبة المالكي في تعميق الشرخ بين مكونات الشعب العراقي وتصدير هذه المشاكل لعمق النسيج الاجتماعي العراقي. - إن كان المالكي يحارب (كما يقول) من أجل دولة المؤسسات فعليه أولا التمعن في ظاهرة حدثت مؤخرا عند فتح باب التطوع للقتال في الأنبار وأن يفكر في أسبابها، فأغلب إن لم نقل جميع من تطوعوا، كانوا من المواطنين الشيعة دون السنة، وهذا يدل على أمرين: أولهما أن الشارع السني يدرك أن هذه الحرب ليست ضد الإرهاب، بقدر ما هي حرب ضد المذهب السني بشكل عام.. وثانيا يوضح مدى نجاح المالكي في التحشيد الطائفي عند الشارع الشيعي وهذا له مدلولات خطيرة جدا ستمتد لأجيال قادمة. إن محاربة الإرهاب (السني) لا تكون بواسطة أحزاب طائفية شيعية كحزب الدعوة والمالكي، لأنها في النتيجة تقضي على إرهاب لنمكن إرهابا آخر مؤيد له، فهكذا حرب يجب أن تكون من خلال أحزاب علمانية لمقاتلة الإرهاب من الطرفين كي يشارك فيها جميع العراقيين. وإن كان المالكي صادقا في دعوته هذه فعليه أولا التملص من الأحزاب الدينية الشيعية كي يطمأن العراقيون لحقيقة نواياه في حربه هذه.