في بعض البيئات الشرقية يكون إعلان الحب مماثلا لإعلان الحرب فهو زلال له هزات ارتدادية كبيرة ومؤثرة، وقد يقابل بالرفض أو العتب وقد يقابل بالقطيعة والخصام وقد يحول ساحة العائلة الهادئة إلى ميدان تجاذبات كبير وصراع عميق! هذا كله يجرنا إلى أن الحُب عند شريحة من الناس علامة على العلاقات السرية أو التجاوزات الأخلاقية أو التواصل اللا أخلاقي بين الجنسين، وهذا كله تصور عام يسيطر على بعضنا هنا وهناك، ولكن هناك الحب العُذري والصادق المنتهي بالزواج والعلاقة الحلال التي لا تشوبها شائبة ولا تودي بأصحابها إلى مهاوي الردى، فما أكثر مدعي الحُب وما أكثر المتلبسين بلباس الحُب والهيام وهو منهم براء. وهذا ما نريد أن نركز عليه وهو تقدير هذه المشاعر وترشيدها بالشكل الصحيح بدل الحرب عليها وتوجيها نحو بناء أسرة ناجحة بدلا أن تكون علاقات مريبة تحت الأرض وفي الظلام، وهذا يقودنا أن نتعامل مع هذه الأحاسيس باحترام لأن مشاعر الإنسان غالية عليه ولا يجب أن نسخر منها أو نتلاعب بها بحسب أهوائنا أو أمزجتنا أو مصالحنا الضيقة أو حتى تقديس بعض العادات التي تتعارض مع نصوص شرعية أو الفطرة البشرية؛ حيث العسف أو الظلم أو الإجبار ونزع الحقوق، وهناك ننتزع من الإنسان كرامته ونقتل سعادته بدل أن نساهم في صناعتها! فقرار القبول أو الرفض لهذه العلاقة لابد أن يكون مبرراً أخلاقيا أو سلوكيا أو شرعياً ويكون عبر حوار منتهاه التوافق وهذا يجعل الجيل الحالي يقدر قيمة اختيار شريك العمر، وأنه يجب أن يكون كفؤاً وعلى قدر عال من المسؤولية والكفاءة، ولا تكون هذه العلاقة نزوة عابرة أو علاقة إلكترونية مرتبكة أو حالة هيام وهمية لا تتكئ على أرضية صلبة يقف عليها المشروع وينجح. فمن يريد الحلال يعرف طريقه ومنهجه وعليه الاتجاه إلى الأبواب ليطرقها لا إلى الخلوات ليقتحمها ويزايد على العواطف ويمثل دور العاشق الولهان الذي يهرب من أول اختبار حقيقي للعلاقة. إن التواصل الإيجابي بين الآباء والأمهات وأبنائهم في هذا الباب الهام مهم جدا فهو منعطف طرق لأنهم بحاجة كبيرة إلى ترشيد وزرع للثقة، وأن نعيش معهم حياة الأصدقاء والقلوب المفتوحة لا الأعداء الباحثين عن الزلات والأخطاء أو الخصوم الذين يشكلون بعضهم البعض ليل نهار. فنحن نتحدث عن حاجة فطرية لدى الإنسان وملؤها عن طريق الزواج واجب شرعي وإنساني والمساهمة بحسن الاختيار والإرشاد في ذلك من سمات الأسرة الناجحة، فعندما نشعر بإحساس الحُب ونتأكد من صدقه ومن صلاح المشروع وانسجامه وصلابة الأرض التي يقف عليها وقدرته على أن يكون نواة لأسرة ناجحة فلا نتأخر في إلباس هذه المشاعر لباس العلاقة الشرعية التي هي الحافظ للطرفين والحامي لهما بعد الله. ناهيك عن حاجتنا لإعلان الحُب في كل وقت وعدم ربطه بمرحلة الخطبة وما قبل الزواج فالأذن تطرب لحديث الحُب والقلب يهيم بهذا اللحن الجميل الذي يكون وقود الحياة وزاد العيش، فلقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم حُبه لأزواجه في كثير من المرات حتى أن عمرو بن العاص سأله عن أحب الناس إليه فقال عائشة، وتطالعنا القصص أنه كان يشرب من نفس المكان الذي تشرب منه عائشة رضي الله عنها ليصدح بحبه لها ومكانتها، وكان يسميها بعائش وهو اسم الدلال والكمال لها، وكان يردد أنه يحبها أكثر من حُب أم زرع لأبي زرع وهي من قصص الحب الخالدة في المدينةالمنورة، وكان يبادل الحُب لأصحابه وأحبابه وأحفاده. فلم ينقطع حديث الحُب عن تلك البيئة فكانت الألقاب مثل الأوسمة الشرفية توزع على الجميع تعبيراً عن الحُب والامتنان له وتحفيزاً لهم لمواصلة العمل بتلك الروح، وذلك يوقد فيهم أهمية الحُب لتعميق العلاقات وصيانة الصداقات وكسر روتين الحياة الممل وتقريب الأرواح والأجساد وتكامل المشاريع ورحلة الحياة. فما أجمل كلمة حُب تقال لزوجتك بعد طعام جميل تُعبر فيه عن الوفاء وما أجمل كلمة حُب لزوجك بعد رحلة أو زيارة ترفيهية قضيتم بها أجمل الأوقات، وما أرق كلمات الحُب للأطفال حين الصباح والمساء تزرع فيهم الأمل وتكرس فيهم جمال العمل وتعمق فيهم الثقة بالنفس وتحفزهم على المزيد من الإبداع والإمتاع، وما أسمى الحُب حينما يكون شعارُنا مع والدينا؛ حيث التعبير الصادق عن الدين الكبير لهما في أعناقنا، فهم لا يريدون منا في كبرهم لا جزاء ولا شكورا بكل كلمة طيبة وابتسامة حانية وحُب يخرج من القلب إلى القلب. لا نقلق حينما يستصعب البعض منا كلمات الحُب في البداية لكل من يستحقها لكن علينا أن نتمرن على ذلك وسوف تكون عادة وعندها نجد فرقا مذهلاً في علاقاتنا وصداقاتنا وأهل بيتنا وزملاء العمل وشركاء التجارة. فالاحتياج إلى الحُب وعمق العلاقة وصدق المشاعر احتياج بشري فطري يجب ألا نقف ضده بل نضعه في موضعه الطبيعي والصحيح، ونضخ تلك المشاعر لمن يستحقها ولا نبخل بها أبداً فهي عادة نستطيع جميعاً أن نتحلى بها ونعيش في رحابها ونتذوق العسل المنسدل من ثمارها اليانعة. مشاعر الحُب إذا انطلقت من قلب مخلص ونية صالحة نال الإنسان الأجر عليها والمثوبة، فالمؤمن أُمر بالإحسان لمن عرف ولمن لم يعرف. ما أقسى أن نعيش الجفاف العاطفي حيث تُخيم تلك الأجواء الشاحبة على المشهد ونحن نحتاج إلى طاقة الحُب كل يوم بل في كل دقيقة، وعندها لا نبرر أن بعضنا عاش في بيئات لا تتعاطى الحب وعليه نبرر عدم بثنا للحب في أجوائنا وحياتنا. لقد حولت الدراما والمسلسلات الحُب إلى عذاب ومعاناة وهو في الأصل عكس ذلك فلا بد من تصحيح الصورة وهذا الوعي يجعلنا لا نُخدع. محبرة الحكيم: الحُب.. غيمة تظلل علاقاتنا وتمطرها بالسعادة والسكون فلا نبخل على أنفسنا بهذه النعمة العظيمة التي ربما حولها البعض إلى نقمة.