سوري النشأة.. عربي الهوى والهوية. شهد الحرب الأهلية في لبنان.. ثم سافر إلى باريس وعينه على الوطن الكبير.. لم تنسه مدينة الأنوار أمته، بل عاش معها ومن أجلها. ولأن قدر المفكرين البارزين أن يعيشوا غربتهم؛ كانت غربته مضاعفة، لذا هو متشائم.. يرى بأننا - معشر العرب - خسرنا كل رهان.. خسرنا القومية والماركسية، وقبلها الليبرالية.. وآخر رهاناتنا – الديموقراطية - في طور الفشل، لأن الصندوق وحده لا يكفي.. ولأن عملية التحول العقلي لم تنضج بعد. لم يكن طرابيشي في يوم من الأيام أسيرا لتيار سياسي، وهب نفسه للعلم وللنقد.. رحلة العقل لم تترك بحرا إلا ورمته فيه.. كان جيله مضطرا للانخراط في مدارس فكرية متعددة.. في منتصف القرن العشرين لم تكن الظروف تسمح بالتراخي أو الانتظار، يجب على المثقف الصادق استدراك فوات أمته الحضاري والتاريخي.. بدأ جورج بعثيا.. ثم تعرف على الماركسية من خلال الوجودية، ولأنه مثقف حقيقي لم تغره "الستالينية".. فرويديته أضافت له ما لم تضفه لغيره.. أظنها لا تزال معه. حدثت التراكمات المعرفية والنقدية مع الوقت.. انطلق من نقد الرواية العربية.. شخص "أيديولوجيا الرجولة"، وأزمة الجنس و"عقدة أوديب".. ثم اشتغل بالترجمة، وأي ترجمة..!! عيون الفكر الغربي بين يديك، من هيجل إلى ماركس وفرويد ثم سارتر.. فتنه "الجابري" قبل أن يصدمه صدمة عميقة، أخيرا تخلص طرابيشي من سلطة ذلك الذي كان يراه أبا من نوع ما.. أحرف الجابري مسار جورج من الفكر الغربي إلى التراث العربي.. فأبحر الأخير فيه.. لم يحطم "نقد العقل العربي" بل أضاءه.. كان حجة في رد مسلمة "روحانية المشرق وعقلانية المغرب".. ظل في مشروع "نقد النقد" عقدين من الزمن.. محراب العلم يلهم صاحبه الصبر. وقف بالمرصاد لكل مشروع نهضوي، ليس بغرض الإقصاء وإنما التخصيب.. ساعده فرويد كثيرا، وجه تحذيراته إلى كل مثقف بضرورة التخلص من "المرض بالغرب" والتداوي من "الجرح النرجسي"، لأن تكلفة النهضة تتطلب من النخب إحداث القطيعة مع أمراضنا الثقافية والمعرفية. ولأن النخب هي من تصنع النهضة، فإن المثقف ك"ذبابة سقراط، دوره أن يوقظ لا أن ينيم.. أن يلسع لا أن يخدر..". صاح في المثقفين بعد النكسات والهزائم: النهضة لا الردة.. أسلافكم نهضوا فكانت حضارتهم أغزر الحضارات ترجمة، وتعايشا، وانفتاحا مع الآخر.. السر في الانفتاح، لأن "الانفتاح هو المعبر إلى التقدم". يعاب عليه شح صناعة الأفكار، أو قل انعدام مشروع نهضوي تجديدي، والاكتفاء بنقد النخب ومشاريعها التنويرية.. ولكن طرابيشي تدارك الأمر أخيرا، فكان سفره "من إسلام القرآن..." صناعة فكرية حقيقية.. لكن صاحبنا لا يزال متشائما.. أتعلمون لماذا؟ لأنه لا يزال مقتنعا أن "إرادة الردة تغلبت على إرادة النهضة" في نفوس النخب العربية.