قرأت هذا الكتاب منذ صدوره قبل عشرة أعوام، ومؤخرا أيضا أعدت قراءته، لماذا هذه العودة المستمرة العصابية له؟!، أظنه لأنه العلاج على المستوى الفكري والنفسي، إذا كان المفكر جورج طرابيشي مشهورا بكتبه الفكرية العميقة (آخرها كتابه "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث الذي يثير جدلات ونقاشات متصاعدة) فإنه أيضا - وهو المترجم الأبرز عالم النفس الشهير فرويد - يتميز وحيدا بأنه يكشف عن أمراضنا الثقافية التي تنصهر في اللاوعي، من هنا الشعور بأنك مع طرابيشي تشفى على مستوى الفكر الظاهر الذي يستخدم فيه أدوات التحليل والنقد ويعود إلى أعماق التاريخ الإسلامي العربي وكذلك الأوروبي والواقع، ولكنك أيضا تشفى على مستوى الاعماق النفسية التي ندعي أنها لا تؤثر فينا، ولكنها في الواقع تمنح ذريعة كبرى للتراجع الفكري والردة الحضارية كما هو حاصل للمجتمعات العربية الاسلامية. "من النهضة إلى الردة" هو عنوان الكتاب الصادر عن دار الساقي، هدفه الأساسي قلب هذا العنوان ليكون من الردة إلى النهضة، طرابيشي الذي يعد من أهم أحفاد المفكرين العمالقة لمرحلة النهضة العربية، يوضح ذلك من البداية عندما يقول إنه بسبب التأخر الحضاري العربي فإن علينا "التخلي عن استراتيجية البدائل" التي ساهمت بمزيد من القطيعة مع العصر إلى توجيه الاهتمامات "إلى آليات النهضة بالذات وهي آليات عقلية بقدر ما هي آليات مادية... والنهضة فضلا عن كونها سيرورة مادية - اقتصادية واجتماعية وتقنية وإدارية - هي أيضا مفهوم النهضة.. النهضة بحاجة إلى النهضة على مستوى الوعي". هذا الهاجس النهضوي كان العامل الأساسي التي تمحورت حوله مواضيع الكتاب، ومنذ البداية وقع الاختيار على الأصعب والمخادع، وهي مواجهة آليات الارتداد حتى عند أكبر رموز النهضة العربية مثل: طه حسين، وقاسم أمين، ففي فصل بعنوان "تغريب أم تحديث؟.. طه حسين وسؤال مستقبل الثقافة" يتناول طرابيشي مقولة طه حسين الشهيرة في كتابة مستقبل الثقافة في مصر عندما قال: "علينا أن نصبح أوروبيين في كل شيء"، فمع كتاب طه حسين أسس أول مرة لمفهوم المستقبل لدى أمة كان ترى مستقبلها في الماضي ولكن الاعتراض هو على صياغته لهذه الاشكالية المعقدة، يقول طرابيشي: "مكمن الالتباس ومثار الاعتراض في نص طه حسين البالغ الجرأة.. أنه يوحد بين الغائية والكيفية في الدعوة إلى التقدم، خالطا بين الهوية والتماهي، فهو يطالب المصريين، ومن ورائهم العرب والمسلمون والعالمثالثيون، بالتنازل عن هويتهم لكي يصبحوا"أوروبيين في كل شيء، مطلب التماهي الكلي هذا ينقض نقضا عنيفا مبدأ الهوية"، ولكن البديل "هو التماهي الجزئي الذي هو عنصر بناء للهوية وإغناء للشخصية" ومن ثم يضيف طرابيشي هذه الجملة الرائعة: "إن التماهي الجزئي والمشروط قد يكون تدريبا على حرية الهوية ولكن المحاكاة موقف عبودية". يعلنها طرابيشي دائما أن الحضارة الغربية وجهت سهم التاريخ صوب اتجاه واحد جعلها تتجاوز الجميع الأمر الذي أصبح ضرورة تاريخية لكل المجتمعات التي تريد التقدم والازدهار ولكن هناك طرائق مختلفة ومتنوعة لذلك ربما ليس من بينها هذه الطريقة الجارحة للهوية التي قد تفضي للعكس. وفي فصل رائع آخر بعنوان "الانفتاح والانغلاق في الثقافة العربية الاسلامية" يتطرق إلى واحدة من أهم المعضلات المعقدة لدينا، يقول طرابيشي إن نظرية كوبرنيكوس التي كشفت ان الارض والانسان ليس محور الكون، وأن الارض هي من تدور على الشمس، والفرودوية التي كشفت أن النفس لم تعد مركز ذاتها. لطالما افتخر الانسان انه قادر على السيطرة على وعيه ولكن هذا لم يعد صحيحا مع اكتشاف اللاوعي الذي يتحكم بأعماقنا، هذه الجروح العميقة التي أذلت الانسان تسببت بجرح نرجسي كوني تعامل معها الغرب باندفاع كبير عبر الاكتشافات والعلوم والغزوات ليكون هو ذاته مركز الأرض، هذا التطور الكبير تسبب بجرح نرجسي للشعوب الأخرى التي سعت لتنزع عنه هذه المركزية. بالنسبة إلينا كعرب ومسلمين دفعنا مثل هذا الجرح النرجسي من الغرب إلى الاندفاع إلى الوراء والارتماء في احضان الماضي بحثا عن العزاء، ومن هنا برزت وتخضمت أيديولوجية الكفاح ضد الحداثة والممانعة من الدخول في العصر، هذا باختصار مبسط جدا فرضية طرابيشي العميقة التي تتناول بالطبع جوانب أخرى تعلل التراجع، ويشرح المؤلف أن الانفتاح على الثقافات المتحضرة هي التي ساهمت بشكل أساسي بصعود الحضارة الإسلامية العربية التي وصلت إلى أرقى تجلياتها في القرن الرابع الهجري، الرغبة في الانغلاق والانفصال التي تدعو لها الأصولية الإسلاموية تسقطه أيضا على الماضي في محاولة لإعادة أسلمة الإسلام. يقول طرابيشي: "ومن هنا رفض الاعتراف بمساهمة تلك الحضارات والثقافات بمن في ذلك من تعربوا وأسلموا من أبنائها، في تكوين الحضارة العربية الإسلامية وتطويرها، ففلسفة التاريخ الأصولية انفصالية مطلقة، وكل اتصالية هي في نظرها ضرب من الشرك أو جاهلية مستأنفة". الصحيح أن اتصال الثقافات وانفتاحها بعضها على بعض منذ انتقال عاصمة الخلافة الاسلامية إلى دمشق، ومن ثم بغداد حيث تم ذلك التفاعل الحضاري الرائع الذي لازلنا نفخر به، يقول الكاتب: "ففي الشام تحديدا سقطت كثرة من المدن بلا قتال أو سلمت المفتاح باليد، فقد ضاقوا ذرعا بالروم وملكهم هرقل لخلافات لاهوتية، وكذلك لفداحة الضرائب وسوء المعاملة..." وما حدث في الشام بعد ذلك "تثبيت مدهش للاستمرارية الحضارية، فقد أبقيت أجهزة الإدارة البيزنطية كما هي بأيدي مديريها المحليين، كما أبقيت الدوايين - أي ما يعادل الوزارات اليوم - مؤقتا على لغتها اليونانية، ولم يلحق بالكنائس والأديرة في معظم الحالات مساس... وتحول المثقفون السريان إلى كتبة لدى الدولة العربية الجديدة، ولاشك أن عناصر كثيرة من هؤلاء السريان سيأخذون طريقهم إلى التعرب الذي سهلته وحدة الجذر السامي للغتين، وإلى اعتناق الإسلام. ولكن البنية الثقافية التحتية لسورية ما قبل الإسلام ستستمر بلا مساس لا في سوريا فحسب ما بعد الإسلام بل في الامبرطورية العربية كلها. وفي المرحلة العباسية ستلتقي هذه البنية الثقافية مع البنية الثقافية العراقية - الفارسية، وستعرف الحضارة العربية الإسلامية من خلال هذه الخلطة التاريخية عصرها الذهبي". يتبحر طرابيشي عميقا وعلميا في التاريخ ليكشف أن الانفتاح والتفاعل الحضاري كانت آلية النهضة الأهم في الخلافة الاسلامية، ولنعرف بطريقة معكوسة الآن أن آلية الانغلاق والجمود والارتياب هي من أوصلتنا إلى الردة الحضارية التي نتخبط فيها بسبب الأصولية الانفصالية ودعوات العداء والكراهية. في فصل آخر يحلل طرابيشي خطاب قطاع واسع من المثقفين التي تعاني من عصاب مرضي من الغرب وتجلى ذلك بصورة كبيرة برفض العولمة لأنها قادمة من الغرب، هذا العصاب المرضي بالغرب المتفوق علينا يدفعنا بدلا من معرفة أسباب تفوقه إلى دعوات هوسية، إلى الخروج من العصر، مثل هذا الاستقالة بهدف إغاظة الغير، برزت كثيرا مع العولمة بسبب موضوعها الخلافي عندما - يقول المؤلف - "تحولت مطية إلى هجاء للحداثة ولعاملها الحضارة الغربية، فلنا أن نشتبه في وجود معينات نفسية لا شعورية، من طبيعة عنادية عصابية، وراء هذا الموقف الرفضي"، حالة الخصام الذهني الذي صاحبت العولمة في بدايتها فتحت لهجائها بوصفها اغتصابا ثقافيا واختراقا مسلحا بالتقنية ومرادفا للأمركة الأمر الذي وصل بها "من مستوى المؤامرة إلى مستوى الرؤية الكارثية التي تقترب من رؤى نهاية العالم". يرد طرابيشي بعد ذلك على هذا الهجاء الذي يستخدم أساليب التهويل والتخوين، كما أنه يكشف بطريقة تشف فعلا عن التيارات النفسية المجروحة والمهانة والخائفة التي تتحكم بهذه الرؤية الخلاصية. "من النهضة إلى الردة" كتاب لا تقرؤه فقط لتفهم ولتعمق من وعيك، ولا حتى أيضا بهدف فهم آليات النهضة من جديد - وهو هدف المؤلف الأساسي- ولكن أيضا لتشفي نفسك من الأمراض الثقافية النفسية الموجودة في الصحف والتلفزيونات العربية، وكثير من الكتب التي تشعر أحيانا بسبب كثافتها وضغطها أنها تغلغلت إليك، هذا الكتاب وصفة مثلى للخروج من مستشفى الأمراض النفسية الثقافية والفكرية أيضا.