فلان مُحتاج.. كلمة تُعطي بعضنا شعوراً سلبياً بعض الشيء، لأنها إشارة ضعف وقلة حيلة وربما انكسار وتعثر، والكثير من الناس لا يحبذون هذا الشعور فهو يفقدهم توازنهم أحياناً وربما يجعلهم دمية بين أيدي الناس حيث يطلبون المساعدة والإسناد، وهناك من يلبي وهناك من يتخلى! دعونا نتأمل فكرة الاحتياج ووجود قوة كامنة فيها قد تصنع تحولاً هائلاً على مستوى الأفراد أو المنظمات أو الدول، على المستوى الإيجابي بكل تأكيد. فهذا الاحتياج أو النقص يقابله البعض بالاستسلام أو الإحباط وقلة الحيلة، ويقابله آخرون بروح التحدي وقبول النزال وإطلاق كل الممكنات من أجل البحث عن حلول ومخارج لحالة الطوارئ تلك، وغالباً في حال استمر ذلك الجهد والنفس واتصل العطاء وتعمق الصبر فإن الإنسان يظفر بقوة الحاجة التي تجعله ينتقل نقلة نوعية وعميقة وربما تكون التحول الأبرز في حياته الشخصية أو العملية وذات الفكرة عندما تعاني الأوطان والمجتمعات أو المؤسسات من حاجة ماسة فتتحول تلك الحاجة إلى مصدر قوة وتمكين ومشاريع وفرص وأفكار وتطوير. على سبيل المثال فالكثير من الناس لا يعرفون أن دافع أديسون لاختراع المصباح الكهربائي الذي أضاء العالم بعد ذلك هو خوفه الشديد من الظلام وهو طفل وحاجته للنور لتستقر نفسه وتهدأ روحه وتسكن مخاوفه! وفي المقابل عندما نقابل الكثير من العصاميين في مجالات العلوم أو التجارة أو السياسية أو الإعلام أو الفكر والثقافة سنجد قوة الحاجة هي التي رسمت قصة كفاحهم وجعلتهم في صدارة المجتمع وفي مقدمة الركب. بينما ظل بعض الغارقين بالترف والرفاهية السلبية من صغرهم يتغنون بأمجاد الآباء والأجداد حيث انعدم المجد الشخصي والإنجازات الفردية من تاريخهم لأنهم فكروا بعقلية الأمان الدائم الذي أفرز لهم حالة من الركود والدعة التي أعقبها الجمود القاتل حيث تعطلت طاقة الإنسان وانعدم نتاجه. في عالم الأرقام تطالعنا الإحصائيات في علم القيادة أن حوالي نصف قادة العالم هم من الأيتام وتحديداً أيتام الأب والذين تحملوا المسؤولية في سن مبكرة، وهنا أصبح اليُتم فرصة كبيرة للتقدم والريادة لمن تفكر وتدبر وليس كما يعتقد البعض أنه حاجة تأسر وظرف قاهر يجعل من الأيتام في نظر البعض محرومين ومقهورين بينما هم قادة قادمون للعالم في مجالات شتى. ومن هنا نفهم تلك القوة الكامنة في أجسادنا وأرواحنا فكل احتياج نستطيع أن نحوله إلى طاقة إيجابية منتجة مولدة للأفكار والمشاريع والأعمال والمبادرات والإبداع بدل أن نجعلها طاقة سلبية تقلل من عطائنا وتؤثر على نتاجنا وتقلب لنا بياض النهار إلى سواد قاتم. ظل العالم يعاني من صعوبة التنقل والسفر وكان الاحتياج لوسيلة سفر عملية مهمة وضرورية ومن هنا جاءت فكرة الطيران التي ولدت لنا منتجا يدعى الطائرة، وكان الناس قديماً يموتون من أمراض بسيطة أو عادية في بيتوهم فجاءت فكرة العناية الطبية التي ولدت لنا منتجاً اسمه المستشفى أو بيمارستان قديماً، وجاءت الحاجة للدواء والعقاقير فقامت صناعة ضخمة عالمياً تستثمر فيها المليارات لسد حاجة العلاج والصحة. وكل ما سبق جعل العرب يقولون الحاجة أم الاختراع فأضحت مثلاً، لكن البعض لم يتفكر بهذه المقولة ولا يزال يخجل من الحاجة ويعتبرها مؤشر ضعف رغم أنها قد تكون منصة انطلاقة وتحليق للأعلى. فكم من جاهل استثمر حاجته للعلم فكان عالماً، وكم من فقير استغل حاجته للمال فكان ثرياً، وكم من ضعيف تأمل حاجته للقوة فصار قائداً وملهماً، وكم من نكرة لا يُعرف فتبصر حاجته للتأثير والإبداع فأضحى إذا تكلم أسمع وإذا تحرك تابع الناس خطواته ونتاج أفكاره ومخرجاته. ومن هنا فقوة الحاجة ولدت لنا الكثير من الخيرات والنعم والوسائل التي تجعل حياتنا أجمل وأكمل حيث تتمتع بها البشرية حالياً في مجالات مختلفة لكن لم تخرج من غير استثمار لقوة الحاجة وتطويعها في خدمة البشرية. وهذا يجعلنا نتأمل السلوك الفردي أو الجمعي أمام الحاجة وكيف توقد الحاجة في ضمير البعض وقود التحدي والإصرار والطموح والتطلع وكيف تكون الحاجة للبعض الآخر مقبرة النهاية والفناء.