على الرغم من تقادم عمر عقبة "الجوة"، إلا أنها ما زالت ترسم لوحة هندسية غاية في الدقة، ممثلة شريانا مهما لربط الإنسان بين مركز الفرشة في تهامة قحطان ومحافظة سراة عبيدة والعكس. وعلى الرغم من طول طريق العقبة التي يتخللها 23 نفقا وجسرا، إلا أنها اكتست باللوحات التحذيرية والأسهم والدوائر التي تحدد اتجاه وأماكن وقوع الحوادث على تلك الطريق الخطرة. ويقول شيخ شمل آل حيان "آل السري" الشيخ جابر مشبب كردم عنها: "لقد حملت هذه اللوحة 23 رمزا مجوفا، وعشرات الرموز المسطحة التي تشير إلى لغة السماحة والندى واليسر والتلقائية، وتمددت اللوحة مستعينة بالتعرجات والانحناءات والضم والفتح بل والكسر أحيانا لتساهم في تقديم لغة خاصة يحبها أصحاب الفن السريالي، إن فك الشفرة لهذه الرموز هو أول ما ينبغي أن يعتني به زائر هذه المنطقة التي يعتبرها البعض نائية ونحن نعتبرها في قلوبنا وفي قلب جسد هذا الوطن، هناك سؤال ملح لا بد من عرضه عليكم، ألا وهو من رسمها، من رعاها، ما جدواها؟ هل عرفتم هذه اللوحة؟ تحت الجسر ونبدأ من حيث انتهى آل كردم، ولدى وصولنا إلى النفق 15 وجدنا أسفل منه من اتخذه للسكنى أو الاستراحة، أو صيفا لرعي أغنامه، إذ تعتدل الأجواء هناك في قمم الجبال، مقارنة بحرارة الشمس وارتفاع درجة الحرارة على ضفاف الأودية السحيقة. فالأقفاص الحديدية ووجود السيارات هناك، مؤشر على سوء استخدام المكان، إذ مع أدنى زخة مطر سيجرف السيل ما تحت الجسر سواء أكان بشرا أم حيوانات. الطريق مليء بعابريه، والخوف يزداد مع قدوم سيارات الدفع الرباعي، بسرعات كبيرة. أزيز الإطارات تسمعه بوضوح، خاصة عندما يرتفع داخل الأنفاق، وما قد يواكبه من حوادث مميتة. وليس أدل على ذلك من كثرة الدوائر المرسومة على الطريق والتي تشير إلى أن حادثا وقع هنا أوهناك. "شواب" في قرية "جلد" استضافنا جابر محمد القحطاني، وقدم لنا لبنا خض للتو في إناء كهربائي. لقد تغير الحال بعد أن دخلت الكهرباء منازلهم، واستغنوا عن الوسائل التقليدية في خض اللبن. وضع المنتج في صينية، وأضاف إليه حليبا طازجا بنسبة 30% وقدمه، سألته: ماذا تسمون هذه الطريقة التي لم نألفها في أماكن أخرى؟ فأجاب: هذا أجود ما نقدمه للضيف حال قدومه، إنه "شواب" بمعنى مزج اللبن بالحليب بنسب متفاوتة. الثوب الأبيض في فناء منزل "جابر" المتواضع، كان صديق له يقوم بترويض ناقة للتو تم توليدها. اقتربنا منه للسلام عليه فنهرنا، وطلب منا الابتعاد، لأن ذلك يؤذي الناقة على حد زعمه. تراجعنا وتجاذبنا أطراف الحديث حتى أنهى صديقه مهمته وسلم علينا وأخذ يعتذر ويكرر اعتذاره عن عدم مصافحتنا والحديث معنا بالقرب من الناقة، شارحا أن الثياب البيض تخيف إبل وأغنام تهامة، فهي لم تعتدها، مؤكداً أن الوضع ينطبق على الأغنام والجمال في الحجاز والصحاري، فإنها تجفل ممن يلبس ثيابا ألوانها قاتمة، وأن تلك الماشية معتادة على ألوان محددة. معمية واصطحبنا جابر إلى زيارة والدته "معمية عودان" في قرية ليست بعيدة من مركز الفرشة، ما إن سمعت صوت السيارة حتى خرجت تلك السيدة المسنة من قفصها الذي تعيش فيه، وأطلقت عدة أصوات، فهمنا منها أنها ترحيب، وهذا ما أكده ابنها. قالت: أرحبوا هم رجال بمعنى "أرحبوا يا رجال". استقبلتنا بوجه بشوش وابتسامة صادقة، رغم تجاعيد نحو 90 حولا من السنين وقد تزيد. قادتنا إلى حيث تفضل العيش، تاركة غرفة لا تقل سوءا عما حولها. إنها تسكن في قفص حديدي مخصص للأغنام، مساحته لا تتجاوز مترا ونصف في متر واحد فقط، ومسقوف بشيء من الأخشاب، وتقول: "أفضل العيش هنا، تاركة غرفة مسقوفة بالشينكو لابنتيّ المطلقتين، اللتين تعيشان معي مع أطفالهما". وتضيف: "أحرس بناتي ليلا، وأتعهد أغنامي بهذا الكشاف عندما أفتقد الكهرباء لانقطاعها ليلا أحيانا.. يا ولدي أخاف على أغنامي كثيرا، المجهولون يداهمون الحظائر ويسرقونها ليلا، لكن نفسي دون غنمي وبناتي". خائفة وجالية وتقول المسنة معمية، إن مهنتها الرئيسة تربية الأغنام، ولديها نحو20 رأسا من الماعز هي الأساس لمصدر رزقها، ثم الضمان الاجتماعي. وتوضح أن ابنتيها المطلقتين، إحداهما اسمها "خائفة" والأخرى "جالية"، ولكل واحدة منهما طفل. وعلى الرغم من أنها بحاجة إلى من يقوم برعايتها، فإنها تقوم على رعايتهم، كما تلتمس العذر لابنها "جابر"، فهو يعيش في مكان بعيد عنهم، ولديه 9 أطفال وراتبه لا يكاد يسد حاجة أسرته. وأكدت أن ابنتيها لا تستفيدان من الضمان الاجتماعي، داعية المسؤولين إلى التدخل بسرعة وإجراء اللازم بقبول ابنتيها في الضمان الاجتماعي لوقف معاناتهما لأنها أصبحت غير قادرة على إعالتهما وتحمل نفقتهما، وهي لا تتقاضى سوى 800 ريال، ولا يدعم الضمان تسديد فاتورة منزلها كما تسكن بمنزل عبارة عن غرفتين مغطاتين بهناجر، وبحاجة إلى أثاث. صابرة ولا تختلف حال صابرة هادي دشان، كثيرا وتقول بلغة ملؤها الحزن: "أنا لا أملك من الدنيا سوى غرفتين، بناهما لي فاعل خير و700 ريال من الضمان الاجتماعي. وفي بداية كل شهر أرسل من أثق فيه ببطاقة الصراف والرقم السري ليسحب لي مخصص الضمان"، مؤكدة أنها على هذه الحال منذ أكثر من 10 سنوات، وأنها تعيش بين الجبال وحيدة، فهي مطلقة منذ عقود، وليس لديها أولاد ولا عائل لها سوى الله سبحانه وتعالى، وتخاف من تقادمها في العمر، إذ لا يوجد من يقوم على رعايتها. عمس.. وأخواتها حينما عرف سكان قرية عمس بوجود صحيفة "الوطن" ممثلة في محرريها هناك، تعالت الأصوات، مطالبة بالشخوص إلى كل قرية، مؤكدين أنهم يعانون نقصا لأبسط مقومات الحياة من النواحي الخدمية المتعلقة ببعض الوزارات. فقرية "عمس" التابعة لمركز الفرشة، تنزوي خلف الجبال الشاهقة، وتتناثر منازل قاطنيها في بطون تلك الأودية السحيقة وعلى حواف الشعاب، وهي عبارة عن عشش مغطاة بالأخشاب والأشرعة البلاستيكية. وتربط عمس بالفرشة طريق وعر وغير معبد لا تسلكه سوى سيارات الدفع الرباعي، وهو لا يتسع لأكثر من سيارة، وتكثر فيه المنعطفات والمنحدرات الخطرة، مما يشكل خطورة بالغة على عابريه وبصفة مستمرة، خاصة المعلمين ووسائل النقل، ولا سيما أوقات الأمطار. تعثر وفي طريق جلد - عمس شركة مقاولات طرق تنفذ مشروع سفلتة متعثرة في التنفيذ، وهو محل شكوى الأهالي. المواطن أحمد عيسى يؤكد أن الحال بات لا يطاق مع هذه الشركة.. التعليم وصل أولا ثم تلته الكهرباء، أما الطرق فلا تزال غائبة، ومما يزيد في المعانة تباطؤ المقاول في التنفيذ، وإنْ استمر العمل على هذه الوتيرة، فلن يتم تسليم المشروع خلال 5 سنوات مقبلة". إلا أن أحمد جابر فيشير إلى أن أهالي "عمس" محرومون من الكهرباء، إذ وصلت إلى بداية القرية وبالتحديد إلى مدرسة البنين، ثم توقف المشروع ولم يصل إلى داخل القرية لأسباب يجهلونها، موضحا أن سكان هذه القرية يعيشون معاناة خاصة مع الظلام الدامس بصفة عامة والطلاب والمرضى والعجزة بصفة خاصة، ويشير إلى أن هناك بعض المرضى لديهم بعض العقاقير والأدوية بحاجة إلى تبريد. خدمات غائبة ففي الوقت الذي يتوق فيه كل مريض للخدمة الصحية؛ للقضاء على الألم، يقول السكان: إن وزارة الصحة ممثلة في الشؤون الصحية بمنطقة عسير، لم تأبه بمطالباتهم بتوفير أبسط حقوقهم الصحية، وهو تأمين "مركز صحي" يقدم لهم الخدمات الصحية العاجلة والطارئة. ويقول المواطن جابر سعد آل يزيد: لم تقتصر مطالبنا على إيجاد المركز الصحي فحسب، بل نطالب بتوعية صحية، وزيارات فرق الملاريا للقرية بصفة مستمرة لوجود الأمراض المنتشرة، وأن المعاناة تمتد لتطال قطاع الاتصالات الغائبة عن القرية، مما يضطر الأهالي لصعود القمم بحثا عن شبكة اتصال". ويؤكد الباحث الاجتماعي في تلك المنطقة، وكيل عمادة شؤون الطلاب للتطوير والجودة في جامعة الملك خالك الدكتور محمد بن كردم، أن الجهود المميزة التي قدمتها وتقدمها وزارة الشؤون الاجتماعية، بدأت باكورتها منذ أمد، وتنامت مع روح الأمانة ورغبة التطوير وتقديم المساعدة على أرض الواقع، ومشروع الضمان الاجتماعي من المشاريع الرائدة وطويلة المدى وعامة النفع التي رعاها خادم الحرمين الشريفين، حتى وصلت لكل بيت ولك دار ولكل سقيفة وعشة، وافتتاح وحدة الضمان الاجتماعي بمركز الفرشة في تهامة قحطان خير دليل.