لقد غاصت أفكاري في بحر الحيرة والأسف، وكم هي كبيرة ومؤلمة تلك الآهات والحسرات، وكم هي تحرق القلب وتدمي العين وتحزن النفس عندما نتذكر تلك الأمجاد وذلك التاريخ الذي أفل. بناني تستعصي أن تمسك بالقلم ليكتب، وأفكاري ذابت بالتفكير البعيد في الحلم العسير، وخواطري تاهت في ظلمات من بحور الأمل المفقود. قلبي وروحي يحنان لماض تليد أصبح سرابا هبت به رياح الأعاصير الغادرة وسمومها الماكرة.... أصبح وكأنه طيف عبر. إن الذي يبكي دما مما حل ببلاد الرافدين ليحرك فينا الذكرى لأيام خلت، قد ازدانت بالعلم ودوره والتأليف وكتبه، لم نعايش تلك المآسي التي تمر بذلك الشعب ذي التاريخ المجيد، ولم نقاس تلك الأهوال والمتاعب التي يتجرعونها صباح مساء، ولم نعاين التفجير والتدمير والتخريب الذي أصبح كابوسا ملازما لهم في كل وقت. لقد مرت بأمتنا أيام سود وما زالت حتى نظن أن أجلها قد حان ولكن ليس الآن فهناك ظلمة سوف ينبثق منها نور جديد ينير ما أظلم من أيامها السود. علينا أن نعترف أن ما أصاب أمتنا هو من أسبابنا ولا نلوم القدر في ذلك وإن كان حقا. إن ما تتقلب فيه أمتنا اليوم من أسوء الهزائم التي تلحق بها إنما هو من تفريطها وتوانيها وهي من جرت ذلك على نفسها، وعندما تصدق مع الله فعندها يفرح المؤمنون بنصر الله. إن قرآننا يحمل حقائق سوف تتحقق لأمتي قريبا، وإن من يزعم غير ذلك فقد كذب على الله وأملى للناس غير الحق. إن أعداءنا كثير والموانع أمامنا صعاب ولا بد لها من كفاح طويل، وقد يطول بالمرء الصبر من هول ما يرى من محن ويقول في نفسه متى الفرج؟ ولكنه سيطلع قريبا ذلك الفجر الموعود، وليلنا لن يطول سواده فخير لنا أن نظل مكافحين من أن يعترينا سبات الغفلة ونحن لاهين، إنها بغداد ديار العلم والأفذاذ وما حل بها وأهلها لم يكن هدفه التصحيح وإنما هو الشتات والتفريق والإذلال، نبكيك يا بغداد وما لنا غير الدموع نسحها عنوانا، ما أصاب بغداد أصاب غيرها من بلاد الإسلام وكم هي مدروسة تلك النكبات والويلات؛ لأنهم رأوا الانحدار الذي اتبعه العرب عندما رفضوا تربية إسلامهم لثقافاتهم وسياساتهم وفلسفاتهم فعلم الأعداء بمقدار الضعف الذي وصل بهم فتسابقوا على إذلالهم وتعذيبهم، ما الدار بعدك يا بغداد بالدار تفنى عليك صباباتي وأشعاري، أنت المنى وحديث الشوق يقتلني، من أين أبدأ يا بغداد أخباري، إنها بغداد التي كانت منبعا مشرقا في فن الدراية والرواية، وكانت موطن العلماء والأدباء ولها في كل فن ومجال سبق، وكيف لا وهي بغداد التي قيل فيها: بغداد يا فتنة الشرق التي خلبت بسحرها العقل والأقلام والأدبا، ماذا أردد يا بغداد من حزني إذا ذكرتك بعت الهم والنصبا، لقد انتشل منها العلم وضاعت خزائنه الممتلئة بتلك الكتب والمؤلفات وعندما دخلها الأوباش اندثر منها كل شي وكما قيل: لله يا بغداد أنت نشيدة غنت بك الأعصار والأمصار، من لم يشاهد ذا الجمال فإنه ضاعت عليه مع المدى الأشعار، بغداد يا أملا يسري في القلب عسى لك مع الأمجاد رجعة وعودة.