عندما وصلت رسالة نصية لهاتف أحد الأدباء السعوديين أطلق ضحكة مدوية فهي من أحد أصدقائه القدماء الذي عرف بحدته في التهكم والسخرية؛ حيث أرسل النص التالي (أين أنت يا واغش.. أصلك كنت مجرد صفر على الشمال.. والآن أصبحت تتكبر علينا). كلمة "واغش" وجملة "صفر على الشمال" اللتان وردتا في الرسالة لم تكونا سوى صدى لجدالات ثقافية شهدتها الساحة الثقافية المحلية خلال الأسابيع الأخيرة مثّلها بعض رموز الثقافة والأدب في المملكة. الشيخ أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري رد بحدة في صحيفة "الجزيرة" على مقال للشاعر عبدالرحمن العشماوي حوّل فيه اختلافه الفكري مع ابن عقيل إلى النبش في قضية شخصية هي أن ابن عقيل كان مدخنا ويسمع الأغاني، وهو ما اعترف به ابن عقيل، وأكد أنه كتب عن هذا الأمر سابقا، وكتب كذلك عن "توبته" من شرب الدخان وسماع الأغاني. ولكن ابن عقيل لم يكتف بالنفي بل وصف العشماوي ب"الواغش" و"الكاذب". أما "صفر على الشمال"، فأطلقها الدكتور عبدالله الغذامي على رئيس نادي جدة الأدبي الدكتور عبدالمحسن القحطاني في حوار تلفزيوني حول لائحة الأندية الأدبية. حوار التنابز بالألقاب مراقبون يرون أن مستوى هذه الحوارات التي تحولت إلى "تنابز بالألقاب" لا يتوازى مع الجهود الرسمية التي تتبناها الحكومة السعودية لنشر ثقافة الحوار على المستويين الداخلي والخارجي ولعل آخرها مخاطبة "اليونسكو" بشأن إطلاق "برنامج عبدالله بن عبدالعزيز للحوار والسلام" التي أقرها مجلس الوزراء السعودي في آخر اجتماع له الاثنين الماضي. يقول الكاتب والقاص علي فايع الألمعي: إن سبب وصول الحوار بين "النخب" الثقافية إلى هذا المستوى يعود إلى أن مجتمعنا بعمومه (اعتاد على أخذ الأمور غلابا.. خطابنا الثقافي خطاب إقصائي يعتقد أنّ استمراريته لن تكون إلاّ بتسفيه رأي الآخر، والانتقاص من مكانته وقدره). ويوضح رأيه بشكل أدق (مشكلة خطابنا أننا نعتقد أنّ الذين يقودونه نخبة، وهذا اعتقاد مؤسس على باطل، لأنّ النخبة تؤسس للوعي وهؤلاء يؤسسون للجهل، لأنّ الإقصاء أصبح ثقافة لحوار متوارث يعتقد الصغار أنّه نموذج يدعو إليه الكبار، فإذا كان هذا الإقصاء حوار نخبة فكيف يمكننا تصوّر حوار غير النخبة؟!). لكن الكاتب عبدالواحد الأنصاري يختلف مع الألمعي في هذه الرؤية ويؤكد منطلقا من نسق تقليدي قائلا: "إن لغة السجال الأدبي قديمة قدم الأدب نفسه، فنحن نجد مبادئها منذ أن قال النابغة الذبياني لحسان لولا أن الخنساء مرت بي لقلت إنك أشعر العرب، فقال حسان: أنا أشعر منك ومن أبيك ومن جدك، والقصة معروفة، ونظير ذلك ما جرى في بلاط الأمويين والعباسيين كما جرى بين سيبويه والكسائي وكما جرى بين المتنبي وخصومه، فالناحية الشخصية والتلاسن بين الأدباء طبيعة متجذرة فيهم منذ أزل الإبداع الأدبي، وهذه الظاهرة طبيعية جدا، لأنها متناسلة من طبائع الأدبيين، وليس لأن الطبيعة الأخلاقية تقتضيها، وقلما خلا منها عصر إلا خبتت فيه جذوة الأدب وتعثرت مسيرته". ويعود الألمعي ليؤكد أن الحالة "المتردية" للخطاب الثقافي المحلي على جميع مستوياته الأدبية والدينية سببها أن خطابنا تسيّره بشكل كبير أقلام صغيرة تستثير النخبة وتنادي العامة فتحوّل الخطاب العادي البسيط إلى خطاب جمعي مقرف، وحين أقول مقرف، فأنا أعني هذه الصفة التي أتعبتنا كثيرا وجعلتنا نستحي من كثير من هذه الآراء التي تجاوزت حدودها الأدبية والدينية والأخلاقية. ويربط الألمعي بين ما يحدث في الوسط الثقافي والديني وبين التوجيه للحوار مع الآخر بالقول: "دعواتنا لن تنجح في الخارج إذا لم تكن قادرة على أن تكون مثالا حيّا في الداخل، لا يمكننا إحداث تأثير بخطاب فجّ، ومتخبّط". أما الأنصاري فيرى أن الأدباء هم الأدباء، وما تغير هو الرقابة والانفتاح الذي طرأ على المشهد، بحيث أصبح من الأسهل تمرير بعض الملاسنات الحادة وردود أفعالها، وإلا فالأدباء هم الأدباء، يمكن أن أتفق معك في أن الأدباء صاروا أقل خجلا من السابق فقط). الأسلوب الإسلامي في الحوار وفي ظل تلك التجاذبات بين الأدباء أو علماء الدين يبرز التساؤل: هل ضاع أم ضيع الطريق الإسلامي في الحوار؟ وهنا يتساءل الأنصاري: "هل تعني أن أخلاق الحوار كانت أصلا موجودة لدى الأدباء والعلماء؟". ويجيب على نفسه: "أعتقد أنها موجودة لدى أفاضلهم فحسب، وفي كل فئة من الناس أفاضل وحلماء، وفي الأدباء منهم كذلك، وفيهم من هو محتد غاضب، وارجع يا صديقي إلى مذكراتهم وسيرهم لترى أن جلهم خاضوا هذه المعامع، لكننا نحن من ينسى، وإذا نسينا حسبنا أن الأدباء والعلماء كلهم ذوو نفوس حليمة". لكن الألمعي ينطلق في إجابته على التساؤل من زاوية مختلفة؛ حيث يقول: "خطابنا الديني جزء من خطابنا الثقافي العام الذي ينتصر للذات قبل أن ينتصر للحقيقة، وينتصر للمكان قبل أن ينتصر للمنطق، ويقتصّ حاجته قبل أن يسمع حجّة غيره. خطابنا مؤسس على الاعتراض والاحتجاج قبل السماع! خطابنا لا يقبل المداولة ولا يستجيب لكلّ المتغيّرات".