مع إعلان الموازنة العامة للدولة في كل عام، يبرز ملف تنويع مصادر الدخل، كأحد أهم الإستراتيجيات التي رسمتها حكومة المملكة قبل أكثر من أربعين عاماً لتوسيع قاعدة الدخل وعدم الاعتماد على إيرادات النفط فقط. حيث يهتم المسؤولون والخبراء الاقتصاديون بمعدلات نمو الناتج الإجمالي المحلي ومساهمة القطاعات المختلفة فيه، وسط تأكيدات أن مساهمة القطاعات الأخرى في نمو متواصل خلال السنوات الماضية، إلا أن ارتفاع أسعار البترول وزيادة كميات إنتاجه جعل حصته الأعلى من الإيرادات بأكثر من 93%. وفي الوقت الذي شهدت موازنة العام الماضي أرقاما قياسية فيما يتعلق بنمو الناتج المحلي الذي وصل إلى 7.8%، اتفق مسؤولان اقتصاديان في حديثهما ل"الوطن"، على أن خطط التنمية الرامية إلى تحقيق مبدأ تنويع مصادر الدخل تسير في الطريق الصحيح. تطور تجاري لاسيما فيما تتميز به المملكة في صناعات النفط التحويلية، وتطور الخدمات التجارية، والصناعة بشكل عام، إلا أن زيادة إنتاج المملكة من النفط الخام، وارتفاع أسعار إلى مستويات ال100 دولار، جعل نسبة إيراداته الأعلى مما أثر على نسبة مساهمة القطاعات الأخرى التي هي في نمو متواصل. رئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية الصناعية بالرياض الدكتور عبدالرحمن الزامل، أوضح ل"الوطن"، أن مصادر الدخل تعتمد في المقام الأول على خصوصيات كل بلد، مبيناً أن المملكة نجحت في تطوير مصدر دخلها الأول وهو النفط، إلى إحداث صناعات تحويلية، إذ حولته من مجرد نفط خام إلى منتجات نفطية والاستثمار في بناء المصافي واستخدام الغاز المصاحب، وإنتاج المواد البتروكيميائية وتصديرها، إضافة إلى مصادر أخرى وهي السياحة الدينية، والخدمات التجارية والصناعة وغيرها. وقال الزامل إن المملكة توسعت في استخدام وتطوير صناعة النفط، إذ أصبح يمثل مصادر دخل متعددة، ساهمت في رفع الناتج القومي الذي يتغير سنوياً بحسب أسعار النفط، مؤكداً أن سياسة تنويع مصادر الدخل سياسة ناجحة، إلا أن ارتفاع أسعار النفط وزيادة إنتاجه أثرا على نسبة مساهمة القطاعات الأخرى التي هي في نمو مستمر. حسبة بسيطة وأضاف الزامل: "بحسبة بسيطة عندما كانت أسعار النفط ب40 دولارا قبل أكثر من عشر سنوات، كانت نسبة مساهمات القطاعات الأخرى نحو 10%، والآن وصلت إلى 7%. ولكن لو أن أسعار النفط استمرت على ما هي عليه لكانت نسبة مساهمة القطاعات الأخرى أكثر من 18%، إذ إنه مع تطور أسعار النفط، ستقل نسبة مساهمة القطاع الخاص، في حين أنها في نمو أكبر من ذي قبل. مشيراً إلى أن المملكة نجحت في إيجاد استثمارات وصناعات مختلفة سواء كانت غذائية أو دوائية أو صناعية أو تجارية. ويتفق أستاذ الاقتصاد بجامعة الملك عبدالعزيز الدكتور أسامة فلالي، مع ما ذكره الزامل، مبيناً أن مساهمة القطاعات الأخرى غير النفطية في تطور مستمر، حيث إن هناك زيادة في عدد المشاريع الصناعية والاستثمارية في المملكة، إلا أن إيرادات البترول من حيث السعر والكمية تتزايد بصورة كبيرة جدا، مضيفاً: "وعندما نقارن دخل البترول مع دخول المصادر الأخرى، نجد أنه كبير جدا ولا يقارن، في حين زاد الاعتماد على إيرادات البترول أكثر من ذي قبل، نظراً للظروف الاقتصادية العالمية التي زادت حاجتها وشكلت العمود الفقري لارتفاع أسعار البترول من ناحية وزيادة الكميات المنتجة من ناحية أخرى". جهود ملموسة وزاد فلالي أن حكومة المملكة تبذل جهوداً كبيرة لتنفيذ خطط التنمية وتحقيق مبادئ تنويع مصادر الدخل. إذ تبرز الجهود في رفع مستوى التنمية في مختلف القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية، وغيرها. إلا أن هناك تحديات أخرى مثل التنمية الزراعية التي نجحت إلى حد ما، ولكن واجهت مشكلة شح المياه. إذ تعاني المملكة من ندرة في المياه، مما شكل عائقا رئيسيا للنمو وتنمية القطاع الزراعي. وعن دور مؤسسات القطاع الخاص ومساهمتها في زيادة الناتج المحلي، قال فلالي إن القطاع الخاص أثبت نجاحه في مشاريع كثيرة ومجالات مختلفة، إلا أن الاعتماد على أيد عاملة خارجية، يعد أمرا في منتهى الصعوبة، إذ إنه من الأهمية بمكان أن يتم الاعتماد على أيد عاملة وطنية محلية. لأن التنمية في أغلب دول العالم قامت بأيد عاملة وطنية محلية. مضيفاً: "ونحن لا نمانع أن نستقدم عمالة أجنبية، لكن بنسب معينة وفرض خطط لإحلال العمالة الأجنبية بعمالة سعودية، في حين لا يوجد نجاح يذكر في إحلال العمالة الوطنية السعودية بدلاً من الأجنبية". وطالب فلالي بتطوير إستراتيجيات تنويع مصادر الدخل، وإعطاء أهمية أكبر لتنمية الموارد البشرية، ونشر وعي أكبر في المجتمع بأن النفط مورد ناضب، ويتطلب مزيداً من استثماره في تنمية القدرات البشرية في خلق مصادر دخل متعددة، للأجيال الحالية والمستقبلية. أما الزامل فقال إن المملكة نجحت خلال الفترات الماضية في استثمار موارد النفط في تأهيل وتنمية الموارد البشرية. مستشهداً ببرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، والتوسع في إنشاء الجامعات ومعاهد التقنية، وهو الأمر الذي أوجد كفاءات وقيادات سعودية في كثير من الشركات الصناعية الكبرى. مطالباً ببذل جهود أكبر في هذا المجال، من خلال استثمار الإنفاق في تنمية وتأهيل القوى العاملة السعودية. وأشار الزامل إلى الأسلوب الذي اتبعته المملكة في إنشاء صناديق تنموية مثل صندوق التنمية الصناعي وصندوق التنمية الزراعي وصندوق التنمية العقاري، وبنك التسليف والبرامج الأخرى، معتبراً إياها آليات لتوصيل أموال الدولة وتشجيع التنمية، مضيفاً أنها من أنجح التجارب الموجودة التي قدمتها الحكومة. ويرى مراقبون أن ارتفاع نسبة إيرادات النفط من إجمالي الدخل، يعود إلى زيادة إنتاج النفط مرتبطا ببقاء أسعار في معدلات مرتفعة خلال الأعوام الماضية، إلا أنه من الأهمية بمكان بذل جهود أكبر لرفع نسبة مساهمة القطاعات الأخرى حتى ولو أنها في نمو متواصل، حاثين القطاع الخاص والشركات على المشاركة. ورغم الارتفاع النسبي في تنوع القاعدة الاقتصادية في المملكة خلال الأعوام الماضية، تجمع المؤشرات الاقتصادية على أن إيرادات الحكومة من المصادر الأخرى غير النفطية لم تتقدم بشكل مرض، الأمر الذي يدل على أن سياسة تنويع مصادر الدخل الأخرى (غير البترول) تحتاج لمزيد من التشجيع، إذ إن الاعتماد على أصل ناضب يجب الالتفات إليه، للنظر في مسألة تنويع مصادر الدخل وتطويره. نجاح مستمر وهنا يرى الخبير الاقتصادي ناصر الغامدي أن تنويع القاعدة الاقتصادية، نجح خلال الأعوام الماضية، إلا أنها ما زالت بحاجة إلى سن مزيد من التشريعات التنظيمية للاستفادة من موارد الدولة، ومؤسسات القطاع الخاص، وتطوير البيئة الاستثمارية والتجارية والخدمية والتعليمية للمساهمة مع خطط الدولة. وأوضح الغامدي أن مسألة تنويع مصادر الدخل تحتل أهمية بارزة في العقود السابقة بعد أن أدركت البلدان وخصوصاً النفطية منها، أن اعتمادها على مورد وحيد قد يؤثر على الاقتصاد الوطني من خلال الافتقار للخطط التنموية بأطرها المتكاملة التي تضمن تحقيق الأهداف الإيجابية ومن ثم النهوض بمؤشرات التنمية الفعلية. وأضاف: "دخلت عملية تنويع القاعدة الاقتصادية ضمن الأهداف الرئيسة لعملية التنمية لانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ولاستجابتها لعملية تبديل البنية الاقتصادية الموروثة. مواجهة التحديات الأمر الذي يتطلب مواجهة التحديات والعوائق ومعالجتها ووضع السياسات الاقتصادية التي تهدف إلى إعادة توجيه الاقتصاد وتحسين كفاءة فاعلية القطاعات الاقتصادية المختلفة. بهدف تنويع مصادر الدخل وهذا ما انتهجه كثير من الدول محققة بذلك تطورات اقتصادية انعكست في ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي فيها. وبحسب الغامدي، فإن عمليات التنويع الاقتصادي في الدول النفطية تتركز على اعتماد الكفاءات في إدارة الإنتاج والثروة النفطية التي تسهم في الحفاظ على ديمومة هذا المورد الطبيعي الناضب، فضلاً عن تجنب الوقوع في هدر الإنتاج الذي يحصل قبل إنجاز الدراسات التي تكشف وضع المكامن وسلامة إنتاجها بطاقات مثلى. وأوضح الغامدي أنه من الأهمية بمكان إصلاح نظام الدعم في الأسواق الزراعية واعتماد سياسات سعرية وتسويقية مشجعة للاستمرار في زيادة إنتاجية القطاع الزراعي. وتوجيه الاهتمام بالقطاع الزراعي من خلال زيادة الإنفاق الاستثماري في الموازنات العامة وخاصة فيما يتعلق بمجالات ومرافق البنية الأساسية للقطاع الزراعي، ورسم سياسة لإدارة المياه والأراضي ووضع منهج شامل لحل مسألة المياه وتنمية المياه الجوفية. وشدد الغامدي على أهمية إعادة النظر في بعض التشريعات والقوانين والإجراءات الإدارية النافذة بما يمكن من معالجة المشكلات والصعوبات التي يعاني منها القطاع الصناعي. تشجيع مطلوب وتشجيع رأس المال الأجنبي للمساهمة في تشغيل المنشآت القائمة واستحداث منشآت جديدة بما يؤدي إلى اكتساب ونقل التقنية وزيادة الكفاءة ونسب العاملين. وتبني أسلوب القطاع المختلط لإنشاء وإدارة المنشآت الصناعية التي تحقق كثيرا من الغايات ومنها زيادة اطمئنان المستثمرين الأفراد على استثمار أموالهم في الشركات التي تمتلك الدولة جزءاً منها، إضافة إلى تطوير المرافق السياحية، وتشجيع الاستثمار فيها. وتأتي أهمية تنويع القاعدة الاقتصادية، في وقت خطت البلاد فيه منذ أكثر من 25 عاماً خطوات مهمة في هذا الصدد، حيث يبرز برنامج التوازن الاقتصادي كأحد روافد تنويع مصادر الدخل، إلا أن أداء أجهزة القطاع الخاص، وبعض الأنظمة الحكومية ما زال بحاجة إلى مزيد من الجهود لتحقيق هدف المملكة من تبني تنويع مصادر الدخل. ولعل برنامج التوازن الاقتصادي، الذي حققت البلاد من خلاله إنجازات ملموسة بإيجاد قدرات ذاتية لها في مجالات وتقنيات حيوية ومهمة، مثل الطيران والإلكترونيات ونظم الحاسبات، إضافة إلى مجالات حيوية أخرى، يعد مساهما فعالا في توسيع القاعدة الصناعية وفرص الاستثمار والعمل للمواطن.