على هامش مهرجان الرسوم الجمركية بين أكبر اقتصادين عالميين تتقافز أسئلة إستراتيجية صعبة، هل بدأت الصين التخفيف من عقيدة الصبر التاريخي لصالح الصدمات التكتيكية كتطور طبيعي في دورة الأفعال الحضارية للأمم؟!... بعد مرور ربعه هل سيكمل القرن ال21 أمريكيا كما بدأ أم أن للصين قولا آخر؟... لماذا الآن تشن واشنطن هجمات تجارية استباقية، وإلى أي شيء تستند ندية بكين في التعامل معها؟! أولا، خطت الصين إلى الألفية الجديدة بعد تحقيق الكثير خلال نصف قرن مضى، فقد تجاوز ناتجها المحلي الإجمالي للمرة الأولى حدود التريليون دولار مقابل 10 تريليونات دولار للاقتصاد الأمريكي وقتها، لتستمر الانطلاقة الصينية التي بلغت ذروتها بختام عام 2007 حيث النمو المذهل مجددا بنحو 14.2%، لذا كان لا بد من أزمة جديدة مدوية كعادة كل عقد تعيد النمو الصيني إلى رشده أسفل نسبة 10% فكانت الأزمة المالية العالمية 2008 والتي أسفرت عن انخفاض النمو مجددا إلى 9.5% في عام 2009 ولكن بفارق أقل في سباق الناتج المحلي بين الاقتصاد الأمريكي الذي تجاوز حدود 14 تريليون دولار مقابل انتزاع الصين لقب ثاني أقوى اقتصاد عالمي من اليابان بناتج إجمالي تجاوز 5 تريليونات دولار، لتبدأ الصين بعدها العقد الثاني من القرن ال21 بسلسلة مستمرة ومزمنة من تباطؤ النمو. ثانيا، حاول الاقتصاد الصيني تضميد جراحه من شظايا الأزمة المالية العالمية وحقق في عام 2010 نموا 10.4% كأعلى معدل بعد الأزمة، إلى أن وصل قطار النمو في 2013 إلى محطة 7.7% ويستمر التراجع رغم الخطط التريليونية الهائلة من برامج توطين التكنولوجيا وصنع في الصين والحزام والطريق، إلى أن كسر النمو حاجز 7% إلى أسفل مع بلوغ الرئيس ترمب سدة الحكم في يناير 2017 ليفسد أهداف خطط الصين المرحلية ويعمق بحربه التجارية في نسختها الأولى ما فعلته الأزمة المالية في النمو الصيني الذي شهد تذبذبا حادا من 2.2% في جائحة كورونا 2020 إلى تعاف مفاجئ مؤقت بنحو 8.4% في 2021 آخذا طريقه الهبوطي بعدها محملا بأزمات داخلية وخارجية إلى معدل 5% فقط تقريبا بنهاية العام الماضي 2024. ثالثا، إذن ليس مصادفة أن يكون التهبيط الأمريكي المتعمد لمعدل نمو الصين القوي وقتها متزامنا مع الأزمة المالية العالمية 2008 في حرب تجارية غير معلنة لنحو عشر سنوات، وليس غريبا أن تكون رسوم ترمب في ولايته الأولى أقل شراسة مما هي عليها اليوم في ولايته الثانية، فالصين أضعف نموا الآن ولكن أكبر حجما بتحديات ومشكلات هيكلية أكثر تعقيدا، لذلك فإن وتيرة خساراتها ستكون أكبر وأعمق من أي وقت مضى حسب نظريات الاقتصاد السياسي الأمريكي التي تحكم واشنطن اليوم. رابعا، «الأجسام الظاهرة في المرآة تبدو أصغر وأبعد مما هي عليه في الواقع» وكذلك المشكلات الداخلية في أعصاب كلا الاقتصادين الأمريكي والصيني، ولنا أن نسترشد بأحوال مثلث «التصنيع، الصادرات، الديون» لرؤى أوضح... فمنذ مطلع القرن الحالي تراجعت حصة التصنيع إلى الناتج المحلي أمريكيا من 16% إلى 9.9% تقريبا بنهاية الربع الرابع 2024، بينما فقدت الصين أقل من 5% فقط تلك الفترة من 32% إلى نحو 26.2% أما عن نسبة الصادرات إلى الناتج المحلي فقد زادت الولاياتالمتحدة 1% فقط من 10% عام 2000 إلى 11% نهاية 2024 مع حفاظ الصين بقوة على نسبة 20% في نفس الفترة، وهو ما يفسر جزءا مهما من فائضها التجاري الهائل مع العالم بنحو تريليون دولار مقابل 1.3 تريليون دولار عجزا أمريكيا مع العالم. أما عن الديون فالكبيران يتقسمان كوارث هائلة تنذر بانفجارات محتملة لفقاعات قياسية في مفاصل الاقتصادين، فنسبة الديون الحكومية إلى الناتج المحلي أمريكيا قفزت من 36% مطلع الألفية إلى 124% نهاية 2024، مقابل ارتفاع من 55% إلى نحو 86% للصين خلال نفس الفترة، وبالطبع طال ذلك التدهور نسبة ديون القطاع الخاص للناتج المحلي التي تصل إلى 150% في الولاياتالمتحدة ونحو 205% في الصين حسب رصد صندوق النقد الدولي نهاية العام الماضي. ختاما، في بطن المشاهد السابقة إشارات تجبر الطرفين على الوصول إلى حدود حافة جديدة لم تتضح بعد يتفقان عندها، كما تشكل إجابات مفتوحة عن أسئلة أول المقال، فصبر التنين الصيني ليس في صالحه الآن ويقاوم بندية واجبة حتى لا يخسر صلب ما تم بناؤه لصالح الفيل الأمريكي الذي يحاول بمعطيات الواقع أن يجمل أحواله متقاسما أغلبية ما تبقى من القرن الحالي مع الصين اقتصاديا ولو بنسبة حاكمة 51% فقط تبقيه منتصرا ومهيمنا نظريا، إلا لو للتنين أفعال أخرى.