في عصر تتسارع فيه التطور التكنولوجي وتتلاحق فيه المتغيرات العالمية، يبرز الاستثمار في الإنسان كحجر الزاوية لأي تقدم حقيقي ومستدام، فالإنسان هو المحرك الأساسي للابتكار والإبداع، وبدون تنمية قدراته وإطلاق طاقاته الكامنة، تصبح كل الموارد المادية والتقنية مجرد أدوات جامدة بلا روح، يقول الفيلسوف اليوناني أرسطو: «التعليم زينة في الرخاء، وملاذ في الشدة». ومن هنا نفهم أن الاستثمار في المعرفة والتعليم هما استثمار لا يخضع لتقلبات الظروف، بل هو كنز دائم يحمله الإنسان أينما ذهب، وهذا ما أكده المفكر العربي جبران خليل جبران حين قال: «المعلم الذي يمشي في ظل المعبد، وسط تلاميذه، لا يعطي من حكمته بل من إيمانه ومحبته». إن بناء الإنسان يبدأ من الطفولة المبكرة، ويستمر عبر مراحل التعليم المختلفة، ليس فقط بالمعارف النظرية، ولكن بتنمية المهارات الحياتية والقدرات الإبداعية والتفكير النقدي، كما قال ألبرت أينشتاين: «التعليم الحقيقي يبدأ بعد مغادرة المدرسة». الاستثمار في الإنسان يثمر ابتكارات ستغير العالم، «فالابتكار هو ما يميز القائد عن التابع» -هذه المقولة التي نسبت لستيف جوبز تلخص أهمية الابتكار في عالم اليوم، والابتكار لا ينبع من فراغ، بل هو نتاج بيئة معرفية خصبة وعقول تم صقلها وتحفيزها، فالإنسان المتعلم يحمل في داخله عوالم لا حدود لها، ومن الدول التي حققت قفزات تنموية كبيرة مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وفنلندا، استثمرت بشكل أساسي في بناء الإنسان، وفي أنظمة تعليمية متطورة تحفز الإبداع وتشجع على التفكير خارج الصندوق. وكما يقول المفكر بيتر دراكر: «المعرفة هي القوة، لكن المعرفة بدون تطبيق هي مجرد معلومات»، في عصر الاقتصاد المعرفي، أصبح رأس المال البشري أكثر أهمية من رأس المال المادي، وكما يقول الاقتصادي الشهير تيودور شولتز: «الاستثمار في رأس المال البشري هو المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي المستدام». الدول التي تمتلك موارد طبيعية هائلة ولكنها تفتقر إلى الكوادر البشرية المؤهلة، تجد نفسها عاجزة عن تحقيق التنمية المستدامة، بينما استطاعت دول أخرى فقيرة بالموارد الطبيعية، ولكنها غنية برأس مالها البشري، أن تحقق معدلات نمو مرتفعة وتنافسية عالمية، يقول المفكر الاقتصادي، آدم سميث: «ليس ثراء الأمم في مواردها الطبيعية، ولكن في مهارات سكانها وإنتاجيتهم». الاستثمار في الإنسان ليس مسؤولية الحكومات فقط، بل هو مسؤولية مشتركة تقع على عاتق كل مكونات المجتمع، المؤسسات التعليمية، الشركات، منظمات المجتمع المدني، وحتى الأسرة، جميعها تلعب دورًا محوريًا في صقل المواهب وتنمية القدرات. وكما يقول الفيلسوف الأمريكي جون ديوي: «التعليم ليس إعدادًا للحياة، بل هو الحياة نفسها». ومن هنا حرصت المملكة العربية السعودية على دعم رأس المال البشري، فقد قدمت نموذجًا طموحًا في الاستثمار بالإنسان من خلال رؤية 2030، التي جعلت تنمية رأس المال البشري ركيزة أساسية للتحول الاقتصادي والاجتماعي، فمبادرات مثل برنامج تنمية القدرات البشرية، وصندوق تنمية الموارد البشرية «هدف»، وبرنامج الابتعاث الخارجي، كلها تعكس إيمانًا عميقًا بأن الإنسان السعودي هو الثروة الحقيقية والمحرك الرئيسي للتنمية المستدامة، لقد استثمرت المملكة في إنشاء جامعات عالمية المستوى ومراكز أبحاث متطورة، وتطوير المناهج التعليمية لتواكب متطلبات سوق العمل المستقبلي. كما أطلقت العديد من المبادرات لتطوير المهارات الرقمية والتقنية لدى الشباب السعودي، ودعم ريادة الأعمال والابتكار، وكما قال سمو ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان: «ثروتنا الأولى: شعب طموح معظمه من الشباب هو فخر بلادنا وضمان مستقبلها». في الختام، يمكننا القول إن الاستثمار في الإنسان هو الطريق الأمثل نحو مستقبل مستدام قائم على المعرفة والابتكار، إن الأمم التي تعي هذه الحقيقة وتترجمها إلى سياسات وإستراتيجيات واضحة، هي التي ستقود مسيرة التقدم العالمي في القرن الحادي والعشرين، فالاستثمار في الإنسان ليس ترفًا أو خيارًا، بل هو ضرورة حتمية لبناء مجتمعات المعرفة القادرة على مواجهة تحديات المستقبل بفكر مستنير وإبداع متجدد.