لقد قيل: إن أبا نواس تمادى به حب البديع حتى أغرق فيه، وإن أبا تمام أراد البديع فخرج إلى المُحال. هناك. لا شك، عوامل متعددة ساعدت على ازدهار الحركة النقدية في التراث العربي، ولكن أهم هذه العوامل، في القرنين الثاني والثالث الهجريين، هو ما طرأ على الشعر العربي نفسه من تغير لافت، تبلور فيما أنجزه الشعراء المحدثون، ابتداء من بشار بن برد (167ه) وصالح بن عبد القدوس (167ه) مرورا بأبي نواس وانتهاء بأبي تمام (229ه). ولقد تجلى هذا التغير في مجموعة من الخصائص، ميزت هؤلاء الشعراء عن أسلافهم ومعاصريهم، وباعدت ما بين شعرهم والنماذج القديمة التي كانت مثالا يحتذى. ولقد أطلق القدماء، من معاصري هؤلاء الشعراء، صفة «المحدثين» عليهم، وهي صفة تنطوي على إحساس بالمغايرة بين شعرهم وشعر السابقين عليهم. وجعلوا من بشار رأسا لمذهب متميز، فهو «أستاذ المحدثين وسيدهم»، لأنه «سلك طريقا لم يسلكه أحد فانفرد به» وعدوا شعر أبي تمام قمة تصاعد هذا المذهب، بكل محاسنه ومساوئه. وكما أطلقوا على هذا المذهب «طريقة المحدثين» أطلقوا على نتاجه الشعرى صفة «البديع»، وهي صفة تعني الصياغة على غير مثال سابق، فتنطوي على المفارقة. ولقد رد بعض القدماء شيوع ما أسموه ومذهب المحدثين، أو طريقتهم - إلى تلبية مطالب جديدة، نشأت لدى المبدعين والمتلقين، بفعل تغير الزمن، فقيل إن شعر المحدثين تشكل بالدهر، كما أنه «أشبه بالزمان، وإن الذي يستعمل في زماننا إنما هو أشعار المحدثين». والسؤال هو: هل ترجع هذه المطالب الجديدة، عند المبدعين والمتلقين، إلى مجرد الجدة، على أساس أن لكل جديد لذة، فيما يقول ابن المعتز (296ه)؟ أم ترجع هذه المطالب إلى تغير الزمن، وتقلب الأحوال، وبالتالي تغير الأذواق؟ أم أن هذا كله يرتد إلى أسباب أكثر جذرية أنتجت ما صاغه هذا المذهب من إدراك. وما أداه من وظائف، وما واجهه من هجوم، وما أثاره من مشاكل؟ ولعل هذه الأسئلة تقودنا إلى الأخطر، فنطرح السؤال الأهم عن ماهية «الحداثة» التي عدت مرادفة لهذا المذهب، وكيفية فهمها وتحديدها. لقد قيل: إن أبا نواس تمادى به حب البديع حتى أغرق فيه، وإن أبا تمام أراد البديع فخرج إلى المُحال، والإغراق؛ فلفظ يشير إلى مجاوزة الحد فيما تعارفت عليه الجماعة، كما أن المُحال من الكلام ما عدل به عن جهته، التي تعارفت عليها الجماعة أيضا. وكلاهما وصف الحالة مفارقة بين أصل وفرع، ومبدع ومجتمع، وماض وحاضر كلاهما تجسيد لتعارض في الإدراك، فما يراه البعض إحالة وإغراقا من منظور، قد لا يراه البعض الآخر كذلك من منظور مخالف. لكن التعارض يظل قائما بين منظورين، يرتبط كلاهما بإدراك مخالف، على مستويات متعددة، لا يمكن فهم المحدث - البديع، دونها ويقودنا هذا كله إلى «الحداثة». 1980* * ناقد وأكاديمي مصري " 1944 - 2021"