التأمل في منهجية العلوم يفضي بنا الى حقيقة علمية مهمة، وهي ان قواعد العلم تأتي دائماً في مرحلة متأخرة عن فعل العلم ذاته. وهذا يطرح تساؤلات متنوعة ليس أقلها ما نراه من مطالبة هؤلاء المنظرين المتأخرين عن فعل وممارسة هذا العلم رواده بأشياء خارجة عن حقله المعرفي، أو هكذا ينبغي كونها. فعلى حين نرى ان علم العروض جاء متأخراً بعقود عن قول الشعر، فإننا نجد من يعد الخارج عنه نازعاً معطف العروبة، ان لم يرمه بالخروج من ربقة الدين. ومثل هذا طلب العلم، حيث ولد الإنسان جاداً في طلب العلم، ثم في مرحلة متأخرة بدأ التأطير لمنهجية الطلب، ولعل أول كتاب في ذلك هو "آداب المعلمين" لابن سحنون 256ه، ثم توالت بعده عشرات الكتب التي تتناوب في اعادة صياغة وانتاج ورسم هذه المنهجية. وحين نأتي الى قراءة الأدبيات فإنها تثير فينا لا شك ألواناً من التساؤلات، حيث نجد أنفسنا لا نقرأ ما كُتب فقط" وانما تتجلى أمامنا بوضوح الخلفية الفكرية للمنظّر، والذي يفترض فيه أنه رائد يقدّم تجربته ووصاياه، حيث خَبَرَ الطريق بنفسه والرائد لا يكذب أهله، إلا أننا نواجه في وصايا بعضهم خللاً خطيراً في المنهج، كان هو الدافع الأول لكتابة هذا المقال الذي قد تتبعه مقالات أخرى. نقرأ للغزالي في "الإحياء" اماتة صريحة للعقل العلمي في طلب العلم، فهو يقول عن وظائف الطالب "ان لا يتكبر على العلم ولا يتأمر على المعلم بل يلقي اليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق"، وهذه العبارة تتأكد دلالتها عند تراكم أخواتها معها، مما لا يدع مجالاً للتأويل فها هو رحمه الله يقول في "أيها الولد": "أما الاحترام فهو أن لا يجادله ولا يشتغل بالاحتجاج معه في كلّ مسألة وان علم خطأه"، وفي قفل هذه العبارة تكمن المشكلة، حيث ان هذا التنظير السلبي لا بد ان يصل الى هذه المرحلة من سلب الحركية في طلب العلم، ومثيلات هذه الفكرة منتشرة في الأدبيات فالسمهودي يقول في "جواهر العقدين"، "إذا أصر الشيخ على قول أو دليل لم يظهر له أو على خلاف صواب سهواً فلا يغير وجهه أو عينيه أو يشير الى غيره كالمنكر لما قاله بل يأخذه ببشر ظاهر" ص 169، وكان من وصايا الصوفية لطلبة العلم "ان من قال لشيخه لَم؟ فقد هلك"، ولعل هذه التنظيرات البدائية كانت مخاضاً لقول الغزالي في "الإحياء"، "ومهما أشار عليه المعلم بطريق في التعلم فليقلده وليدع رأيه فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه"، وهي عبارة تمنح الطالب شرعية التقليد بل أفضليته ممّا يستحيل معها أن يتفتق ذهن الطالب عن إبداع علمي حيث يقع بين مطرقة الشيخ وسندان النص المؤدلج، ثم يلقي الغزالي سهماً آخر من كنانته ليقضي على الإبداع العلمي في طلب العلم فيقول "وبالجملة كل متعلم استبقى لنفسه رأياً واختياراً من دون اختيار المعلم فاحكم عليه بالإخفاق والخسران" في عبارات تتناسل في مضامينها النابعة من منبع واحد مخالف للمنهجية الأخرى التي يطرحها بعض العلماء كالشوكاني الذي يقول في "أدب الطلب ومنتهى الأرب"، "وليس لك أن تعتقد أن صوابه صواب لك وخطأه خطأ عليه بل عليك أن توطن نفسك على الجد والاجتهاد والبحث عما يدخل تحت طوقك وتحيط بك قدرتك حتى تبلغ الى ما بلغ اليه من أخذ الأحكام الشرعية من ذلك المعدن الذي لا معدن سواه". ص 33. ولذا فإنه يجوز لنا أمام هذه الوصايا أن نعدّها التدشين العلمي للمرحلة الصوفية في طلب العلم، وإضفاء القداسة على الشيخ، حيث جمّد الاجتهاد فنشأ التقليد والعصبيات المذهبية وولدت الألقاب العلمية التي تعكس تضخم ذوات أصحابها، فبعد أن كنّا نقرأ عند ابن سحنون والعسكري والخطيب وابن عبدالبر في مدوناتهم العلمية التأطيرية لمنهجية الطلب نصوصهم في الاحترام للشيخ من سلام خاص به وعدم مناداته باسمه المجرد وغيرها، نجد النقلة كبيرة عند الصوفية وغيرهم الى حد أن يذكر ابن تيمية قول بعضهم "ان القبر قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة"، في تناسل فكري طبعي، حيث كانت النتيجة ولادة طبيعية لمقدماتهم المذكورة آنفاً. كانت هذه النصوص نماذج من الوصايا، التي أصبحت وصاية على العقل العربي في أغلى ما يملك أي طلبة العلم، مما قضى على شعلة الإبداع والاجتهاد، وتحول طالب العلم الى مستودع يحفظ فيه العلم، فبدلاً من أن نمنحه الآليات التي يعمل عن طريقها لكي ينتج معرفة جديدة، أصبحنا نكتفي باجترار المعلومات ممّا ولّد لنا رجالاً يحفظون العلم ولا يفهمونه، وكأنهم كالكتاب لا يدفع شبهة ولا يؤيد حجة كما يقول الماوردي في "الأدب" ص 65 ونحن نقرأ المثل الذي أورده ابن الجوزي في التلبيس عن رجل صالح يحفظ الحديث الشريف "ملعون من سقى ماءه زرع غيره" وكان يتأسف على الأيام التي ترك فيها الماء يسقي مزرعة جاره، الى أن أخبره أحدهم بسوء فهمه الناتج من تجيير العقل ليس للنص الشرعي القطعي الدلالة والثبوت وانما لمن يمارس تأويله، ومثله ما يذكره الأستاذ الفاضل المسيري في مقال له في "إسلامية المعرفة" حيث سأل بعض الإسلاميين عن حكم المصارعة؟ فرفضوها بحجة اللباس غير الساتر، وهو يذكر انهم توقفوا هنا وغاب عنهم الصراع الدراويني الذي يحول المتصارعين الى كتلتين من اللحم، وأقول: لعل هذا ناتج من نتائج سيطرة التعلق بالنص التأويلي وليس بالنص الشرعي، الذي يراعي أبعاد العملية الشرعية والحكمية في كل زمان ومكان، ومن هنا عُدم المجتهد المطلق اكتفاءً بالتقليد وأرباً في تمشية الحال كما يقوله ابن تيمية في "صفة الفتوى والمفتي" ص 17. وقد كان من المقدمات التي أوردت هؤلاء العلماء في أمثال هذه الوصايا، فهمهم الخاطئ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "العلماء ورثة الأنبياء"، فلم يكتفوا بأنهم هم المبلغون لشرع الله والقائمون بوظيفة الأنبياء" بل ذهبوا في ايراد الأدلة المبتورة السياق ليؤكدوا سلطتهم الروحية، فتجد بعضهم يتكلم عن الأدب في سؤال الشيخ، فيذكر وجوب الانتظار وعدم الإلحاح فيه، ويستدل بقوله تعالى "ولو أنهم صبروا حتى تخرج اليهم لكان خيراً لهم" في محاولة لسحب مزايا النبوة في جمع خصائصها وإسباغها على الشيخ، ومن هنا أفاضوا في الحديث عن أدب السؤال من دون أن يتكلموا عن حرية الرأي والخلاف والاجتهاد، واستدلوا ب "لا تسألوا عن أشياء..." وكراهية كثرة السؤال، وتناسوا ان شفاء العي السؤال، وإذا قيل لهم ان السؤال مأمور به لأهل الذكر فإن الغزالي يجيب فيقول في "الإحياء": "هو كذلك ولكن في ما يأذن المعلم في السؤال عنه فإن السؤال عمّا لم تبلغ مرتبتك الى فهمه مذموم ولذلك منع الخضر موسى عليه السلام من السؤال أي دع السؤال قبل أوانه فالمعلم أعلم بما أنت أهل له وبأوان الكشف"، وقد غفل رحمه الله عن اضطرام النفس بالأسئلة وحاجة الطالب الى لمعرفة، وقد كان ابن جماعة في "تذكرته" ص 73 أفقه عندما قال: "ولا يذكر شبهة في الدين ويؤخر الجواب عنها الى درس آخر بل يذكرهما جميعاً أو يدعهما جميعاً ولا يتقيد في ذلك لمصنف يلزم منه تأخير جواب الشبهة عنها لما فيه من المفسدة"، وفي محور سؤال الطالب للشيخ، نجد التناول المتباين بين رؤية الغزالي ومن وافقه، وبين كلام الأئمة، أمثال الماوردي في "أدبه" ص 78 - 79 الذي ينص على أن السؤال ليس إعناتاً بل هو يزيل الشكوك والشبه، وابن تيمية الذي يرى استحباب المشاورة والمباحثة من المفتي لمن عنده وان كانوا طلابه كما في "صفة الفتوى" ص 58، وذكر الخطيب في "الفقيه والمتفقه" ان كراهية المسائل منوط بوجوده صلى الله عليه وسلم خشية أن يحرم شيء على الأمة، وعقد ابن عبدالبر باباً في حمد السؤال والإلحاح في طلب العلم، وذكر فيه قول الخليل بن أحمد "ولا تجزع بتفريع السؤال فإنه ينبهك الى علم ما لم تعلم". وقد يستدل بعضهم بأن الخلاف شر وان الجدال لا طائل وراءه، وان التجربة خير وغيرها، ليكرسوا طلبةً للعلم يرون مناط الصحة هو رأي الشيخ، من دون أن تتسع افهامهم للمذاهب والآراء. ونحن نرى في واقعنا المعاش أنّ العالم الشرعي كلما اتسع علمه لانت عبارته في اصدار الأحكام وما ذاك إلا لعلمه بالأقوال والآراء، وان اطلاق لقب السماحة على هؤلاء مناسب كل المناسبة لسماحة الإسلام، وقد ذكر الماوردي في "أدبه" ص 77 ناعياً التقليد الأعمى من قبل طالب العلم لشيخه. "يقول أحدهم ان هذا دلالته فاسدة ووجه فسادها ان شيخي لم يذكرها وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه"، وفي هذا الصنيع من قبل بعض العلماء صد عن ذكر الله وعن مدارسة العلم فبدلاً من أن يمنحوا طلابهم قوة الفحص العلمي، وإقصاء النتائج القبلية، وترتيب الأولويات، والتفريق بين النص وقدسيته والاجتهاد ورحابته، والإبداع في تنوع زوايا النظر الى الموضوع الواحد، أقول: بدلاً من هذا كله نجد حال بعضهم كما يقول الندوي في "ربانية لا رهبانية" ص 60، "وقد حال العلماء بينه الشعب وبين دراسة القرآن وفهمه بعلّة تعذر فهمه للعامة وخوف إخلال سلطتهم الروحية وسيادتهم العلمية". ومن المقدمات التي دفعت الى هذا التأصيل، ما يخافه البعض من أن يصبح النص محلاً للأخذ والرد" ممّا يعرض الصلة بالله للاهتزاز والذوبان في محيط لا يرعى للنص حرمته، وهذ كلام ان صح في العقائد فإنه لا يصح في الفقه وغيره، فإن الباب مفتوح ليس للحوار فقط بل للمنازعة مع الخصم، كما نص على ذلك ابن عبدالبر في "جامعه" ص 360 فهو يقول: "وأما التنازع في أحكام القرآن ومعانيه فقد تنازع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من ذلك وهذا يبين لك ان المراء الذي هو الكفر هو الجحود والشك... وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر، لأنه علم يحتاج فيه الى رد الفروع على الأصول للحاجة الى ذلك وليس الاعتقادات كذلك"، فالجدال والسؤال العلمي وتمحيص الرأي وتعميق الفهم أمر مهم لطالب العلم، وفي سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم مع أصحابه خير مثال في حواراته ومناقشاته، ولئن يعطي الشيخ لطالبه منهجية التلقي والبحث والاستدلال والحوار خير من أن يحفظ متناً فقهياً، ومعلوم ان انتاج المعرفة الإسلامية لا يتأتى إلا عبر منهجية رصينة في التناول، حيث باتت البنية التكوينية لكثير من ممارساتنا الشرعية في حاجة ماسة لما يسمّى معرفة المعرفة أو فقه المعرفة والقدرة على بعثها، وقد قال الحافظ أبو بكر "ان العلماء في حفظ العلم متقاربون وفي استنباط أحكامه متباينون"، وقد وجدنا ان الخطيب في الفقيه والمتفقه يطلق عليها مسمى "وآلة الاجتهاد" حين نص على أن الفقيه لا يجوز له التقليد لامتلاكه لها، وفي المثل "علمني الصيد خير من أن تعطيني كل يوم سمكة"، وقد كان لابن جماعة وابن عبدالبر وابن تيمية كلامهم الفصل في الحث على ما يمكن أن نسميه تكوين المنهجية البحثية. أخيراً نستطيع عبر هذه النظرة أن نستبين أن هذه الأدبيات لا تعكس خلافاً في وجهات النظر، بقدر ما تعكس خلافاً في المنهج وفي الخلفيات الابستمولوجية والفكرية التي تتحكم في كتابات علمائنا القدامى ليس في علومهم وتآليفهم فقط، بل وفي المناهج والأطر التي يقدمونها لمريديهم وطلابهم، ومن هنا كانت كتب التنظير والتأطير الخارطة الأولى والأهم للكشف عن أفكارهم. * كاتب سعودي.