مرحلة التقاعد من أهم المراحل في حياة الإنسان، حيث تمثل انتقالاً كبيراً من الحياة العملية النشطة إلى مرحلة جديدة قد تبدو للبعض أكثر هدوءاً. ومع ذلك، فإن التقاعد لا يعني بالضرورة الانسحاب من المجتمع أو التوقف عن المساهمة فيه. بل على العكس، يمكن أن تكون هذه المرحلة فرصة ذهبية للانخراط في أنشطة جديدة ومفيدة، والاستمراربالتأثير الإيجابي في المجتمع. تذكر دائما أن العمر مجرد رقم كما قال الفيلسوف الروماني شيشرون: "لا أحد يصبح عجوزًا بمجرد أن يعيش عددًا معينًا من السنين؛ الناس يصبحون عجائز عندما يتخلون عن مُثُلهم." المعنى الكامن وراء هذه العبارة هو التأكيد على أن الشيخوخة ليست مسألة عمر إنما هي حالة نفسية واجتماعية. فبقاء الشخص نشطاً ومحافظاً على طموحاته وآماله حتى في سن الشيخوخة يجعله لا يشعر بالتقدم في السن. بينما من يتخلى عن أهدافه ويقبل بالجلوس والكسل فهذا يعتبر منطلقا للشيخوخة الحقيقية حسب هذا التعبير.. السؤال المهم هنا كيف يمكن للمتقاعدين البقاء نشطين ومشاركين فعالين في مجتمعاتهم؟ يعد التطوع قوة التغيير الإيجابي ويتعبر من أفضل الطرق للبقاء نشطاً ومؤثراً في المجتمع بعد التقاعد. فهناك العديد من المنظمات الخيرية والمؤسسات غير الربحية التي تحتاج إلى خبرات وقدرات المتقاعدين. يمكن للمتقاعد أن يختار مجالاً يهتم به، سواء كان ذلك في التعليم، أو المساعدة في المستشفيات، أو دعم الأطفال المحتاجين. التطوع لا يساعد المجتمع فحسب، بل يمنح المتقاعد أيضاً شعوراً بالرضا والإنجاز. فكما ذكر الدكتور مارتن سليجمان، مؤسس علم النفس الإيجابي، يؤكد هذه الفكرة بقوله: "استخدام نقاط قوتك الشخصية في خدمة شيء أكبر منك هو وصفة للسعادة الدائمة. "يؤكد سيليجمان من خلال هذه العبارة على أن إيجاد مصدر للمعنى والغاية في الحياة من خلال خدمة الآخرين أو تحقيق غايات أعلى هو مفتاح السعادة الحقيقية والدائمة. بحيث يستخدم الشخص نقاط قوته ومواهبه ليس لمصلحته الشخصية فقط بل لخدمة المجتمع والإنسانية. أيضا لا يتوقف التعلم عند سن معينة فالتعلم المستمر يعتبر تحدي العقل وتوسيع الآفاق. يمكن للمتقاعدين الانضمام إلى دورات تعليمية في الجامعات المحلية أو عبر الإنترنت. سواء كان ذلك لتعلم لغة جديدة، أو اكتساب مهارة فنية، أو استكشاف موضوع طالما أثار اهتمامهم. التعلم المستمر يحافظ على نشاط الدماغ، ويوفر فرصاً للتواصل مع أشخاص جدد، ويمكن أن يفتح أبواباً لمشاركة هذه المعرفة الجديدة مع الآخرين. كما قال الفيلسوف اليوناني سقراط: "التعليم هو إشعال النار، وليس ملء الوعاء." هذا القول يشجع على استمرار التعلم والنمو في جميع مراحل الحياة. ومعناها أن التعليم الحقيقي ليس مجرد تلقين المعلومات وحشو العقل بها، بل هو عملية إضاءة الذهن وتنمية قدرته على التفكير والتأمل. فالمعرفة الحقيقية لا تكتسب بل تنمو من خلال عملية مستمرة من التعلم والتأمل. وهذا يعني أن عملية التعلم لا تنتهي بل يجب أن تستمر طوال حياة الإنسان. لذا، فهذه العبارة تشجع على استمرار التعلم والنمو الذهني وعدم الاكتفاء بما تحقق من معارف سابقة، وهو ما يعزز فكرة استمرار التعلم في جميع مراحل الحياة. ريادة الأعمال تعتبر بداية جديدة في سن متقدم قد يجد بعض المتقاعدين أن لديهم الوقت والخبرة لبدء مشروع تجاري صغير. قد يكون هذا المشروع مرتبطاً بهواية قديمة أو مهارة مكتسبة على مدى سنوات العمل. إنشاء عمل صغير لا يوفر دخلاً إضافياً فحسب، بل يمنح أيضاً شعوراً بالإنجاز والاستمرارية في المساهمة الاقتصادية في المجتمع. رائد الأعمال الأمريكي ستيف جوبز قال ذات مرة: "إن عملك سيشغل جزءًا كبيرًا من حياتك، والطريقة الوحيدة لتكون راضيًا حقًا هي أن تفعل ما تعتقد أنه عمل عظيم." العبارة تشير إلى أنه مهما بلغت سنّك، يجب ألا تتخلى عما تعتقد أنه عمل مهم ومُثمر. الإنجاز والرضا حتى لو بلغت سناً متقدمة. وأن اختيار مهنة أو عمل يعكس رؤيتك ويخدم المجتمع هو الذي سيُشعرك بالإنجاز والرضا حتى لو بلغت سنا متقدما. وهذا ينطبق تماماً على ريادة الأعمال، حيث يمكن للأشخاص في سن متقدمة أن يأخذوا مخاطر ويبتكروا أعمالاً جديدة تخدم المجتمع وتحقق لهم الإنجاز والسعادة. فالعبارة بالفعل تشجع على مواصلة روح ريادة الأعمال عبر جميع مراحل الحياة. المشاركة في الأنشطة المجتمعية أيضا تبني روابط اجتماعية قوية. المشاركة في الأنشطة المجتمعية المحلية طريقة رائعة للبقاء على اتصال مع الجيران والمجتمع بشكل أوسع. قد يشمل ذلك الانضمام إلى نادٍ محلي، أو المشاركة في فعاليات ثقافية، أو حضور اجتماعات مجلس الحي أو المدينة. هذه الأنشطة لا تحافظ على النشاط الاجتماعي فحسب، بل تتيح أيضاً فرصة للمساهمة في صنع القرار المحلي وتشكيل مجتمعك. عالم الاجتماع روبرت بوتنام يؤكد أهمية هذا بقوله: "رأس المال الاجتماعي يشير إلى ميزات التنظيم الاجتماعي مثل الشبكات والمعايير والثقة الاجتماعية التي تسهل التنسيق والتعاون من أجل المنفعة المتبادلة." بالإضافة، مشاركة الخبرات التي حصل عليها المتقاعدين من خلال سنوات عملهم تعمل كدور المرشد والموجه. يمتلك المتقاعدون ثروة من الخبرات والحكمة التي يمكن مشاركتها مع الأجيال الأصغر. يمكن أن يتخذ هذا شكل التوجيه الرسمي في برامج الإرشاد، أو بشكل غير رسمي من خلال التفاعل مع الشباب في المجتمع. مشاركة الخبرات لا تساعد الآخرين فحسب، بل تمنح المتقاعدين أيضاً شعوراً بالقيمة والاستمرارية. الفيلسوف الصيني كونفوشيوس قال: "إذا كنت تخطط لسنة واحدة، فازرع الأرز. إذا كنت تخطط لعشر سنوات، فازرع الأشجار. إذا كنت تخطط للحياة، فعلّم الناس." هذا القول يبرز أهمية نقل المعرفة والخبرة للأجيال القادمة. الاهتمام بالصحة هي أساس الشيخوخة النشطة. للبقاء نشطاً ومشاركاً في المجتمع، من الضروري الاهتمام بالصحة الجسدية والعقلية. يشمل ذلك ممارسة التمارين الرياضية بانتظام، واتباع نظام غذائي صحي، والحفاظ على الفحوصات الطبية الدورية. الصحة الجيدة هي الأساس الذي يمكّن المتقاعدين من الاستمرار في المشاركة الفعالة في مجتمعاتهم. الفيلسوف اليوناني أرسطو قال: "الصحة هي أول الشروط للسعادة." هذا القول يؤكد أهمية الحفاظ على الصحة كأساس للحياة النشطة والمرضية. في الختام، الشيخوخة النشطة هي نهج للحياة يمكّن كبار السن من الاستمرار في المساهمة بشكل إيجابي في مجتمعاتهم. من خلال التطوع، والتعلم المستمر، وريادة الأعمال، والمشاركة في الأنشطة المجتمعية، ومشاركة الخبرات، والاهتمام بالصحة، يمكن للمتقاعدين أن يعيشوا حياة مليئة بالمعنى والرضا. فالتقاعد ليس نهاية الرحلة، بل هو بداية لفصل جديد ومثير من الحياة، مليء بالفرص للنمو والمساهمة والاستمتاع. كما قال الكاتب والفيلسوف الأمريكي رالف والدو إيمرسون: "لا تتبع حيث يقود الطريق. بدلاً من ذلك، اذهب حيث لا يوجد طريق واترك أثراً." هذا القول يلخص روح الشيخوخة النشطة - فرصة لاستكشاف مسارات جديدة وترك بصمة إيجابية في العالم.