علاقات التقارب والجوار بين شرقي إفريقيا (الحبشة، الصومال وما يليها) وبين الجزيرة العربية قديمة قدم الزمان، فلا يفصل بين شواطئها – على البحر الأحمر – إلا شريط من الماء يضيق إلى أن ينحصر في 25 كيلا. ويتسع فلا يزيد على 400 كيل (كيلو متر) وقد نتج من طبيعة ذلك التقارب هجرات متبادلة واتصالات دائمة، وغزوات في فترات من التاريخ القديم أشهرها الغزو الحبشي الثالث لليمن سنة 525م. إلا أنه منذ أشرق نور الإسلام أحال العداء إلى وئام، والتناحر إلى حسن جوار، وكانت هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة فاتحة سطرا مضيء الكلمات، مشرق الصفحات في سجل عهد جديد. أخذت من بعده أشعة خير دعاة للإسلام بأقوالهم الصادقة، وأعمالهم الصالحة فاتسعت دائرته في الداخل إلى قرب (هرر). وأول أمير مسلم عرف في التاريخ على (هرر) هو الأمير (عمرو لاشيما) في أوائل القرن السادس تقريبًا، وبعده نشط الإسلام في تلك الربوع وبالأخص في عهد السلطان سعد الدين صاحب (زيلع) وفي عهد الإمام (أحمد بن إبراهيم). والأخير نعته الأمير شكيب أرسلان ب (صلاح الدين) الحبشة لكثرة مغازيه، وعظم فتوحاته، ومنها مدينة (اكسوم) عاصمة الحبشة آنذاك، وقد استمر سلطانه من سنة 930 إلى سنة 948 ه. وبطبيعة الحال فإن العربية هي لغة الدين والعبادة، مع ما للقوم من لغات محلية تزيد على خمسين لسانًا، أشهرها الأمهرية لغة الدولة الحبشية المسيحية، أما جل القبائل فلكل قبيلة لغتها. فألف الإسلام بين تلك القبائل المختلفة الطباع، المتباينة الألسن، وصهرهم في وحدة إسلامية، كانت العربية القاسم المشترك في التفاهم، لغة القرآن الكريم والأحاديث النبوية، والفقه الإسلامي. تقصر عن معانيها السامية بساطة لغاتهم البدائية، فاتسعت مفاهيمهم، وارتقت مداركهم، وأصبحوا كمسلمين يتدفقون حمية وغيرة لإعلاء دينهم، ونبغ منهم قادة أعلام رفعوا لواء الإسلام عاليًا في تلك الأقطار، ما ينوف على قرنين، حتى اعتراهم ما اعترى غيرهم من الضعف وتفرق الكلمة. وعلى الرغم من تقلص سلطان الإسلام وما بليت به تلك الأقطار من محن الاستعمار، إلا أنه ظل للإسلام المكان الأول في القلوب المؤمنة، والإيمان الراسخ في النفوس المسلمة، والمتمثل حاليًا في جمهورية الصومال الفتية الإسلامية، وفي مسلمي (إريتريا) و(هرر) التابعين للحبشة. أما من الناحية الأدبية، فإن اللغة العربية لا تزال معروفة يتكلمون بها كما يتكلمون بلغتهم المحلية، ونخال أن ازدهار الإسلام ممثلا في انتشاره وفتوحاته وامتداد سلطانه واكبه ازدهار أدبي للعربية، إلا أن البراهين والشواهد تحتاج إلى الجهد الشاق والغوص المضني في لجج تأريخ تلك الأقطار البعيدة زمنًا ومكانًا. وإذا كان التأليف في الناحية التاريخية بقي لنا منه الدليل المفيد، والأثر الملموس المتمثل في تأريخ (فتوحات الحبشة (للشيخ شهاب الدين أحمد بن عبدالقادر الملقب ب(عرب فقيه) الذي نشر الجزء الأول منه المستشرق رينه باسه Rene Basset) ثم ترجم إلى الفرنسية فإن الأدب قد طمست معالمه وضاعت آثاره. وإذا كان كتاب (فتوحات الحبشة) قد اعتنى به عالم فرنسي ونشره بنصه العربي، وأصبح لدى (الغرب) من المصادر المهمة لتأريخ الإسلام في الحبشة أو بالأصح.. لفترة من تاريخه، وهم لا يحرصون على ذلك إلا خدمة مصالحهم الاستعمارية قبل مصلحة العلم، أفلا يحمل بنا ونحن أبناء المملكة العربية السعودية موطن الإسلام ومهبط الوحي ومهد العروبة الأول - وفي عهد تقارب المسلمين وتضامنهم، الإسهام ببعض البحوث العلمية والأدبية التي تربط الماضي بالحاضر بيننا وبين إخوان لنا في الدين، نجدد به عهود الإخاء، نشجع به على توثيق تلك الرابطة الكريمة علميًا وأدبيًا. 1967* * شاعر ومؤرخ سعودي «1916-2003»