تعود صلة الحبشة ببلاد العرب الى عهود سحيقة، ويذكر التاريخ تدخل الحبشة لنجدة المسيحية في اليمن حينما دخلت في الابتلاء المعروف ب "اصحاب الأخدود"، وورد ان نبي اصحاب الأخدود كان حبشياً. وتلت ذلك حادثة "اصحاب الفيل" التي حاول فيها أبرهة هدم الكعبة. وارتبطت الحبشة بعلاقات تجارية وثيقة مع قريش في الجاهلية، وكثير من سادة قريش انحدروا من اصلاب حبشيات، فالحارث بن ربيعة المخزومي أمه حبشية، ومن ابناء الحبشيات نضالة بن هشام بن عبد مناف، وعمرو بن ربيعة، والخطاب والد سيدنا عمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص، وقرظة زوجة معاوية بن ابي سفيان. وكانت مرضعة الرسول ص وحاضنته حتى بلوغه سن الرشد هي أم أيمن بركة الحبشية التي كان الرسول ص يقول لها "انت أمي بعد أمي". وكان لأم ايمن دور في ان يلمّ الرسول ص بطباع اهل الحبشة، ويروى انه كان يلمّ ببعض لغتهم، وذلك كما ورد في حديث أم خالد بن خالد بن سعيد التي قالت ان الرسول مسح على خميصة أهداها لها، وكان يقول "سناه سناه" ويعني الحسن بالحبشية. وتعني سناه او سناي جميل او حسن في اللغة التجرينية. ويعزو المؤرخون اختيار الرسول ص للحبشة وجهة لأصحابه الى معرفته الوثيقة بطباع اهل تلك البلاد. وكانت الهجرة الى الحبشة نقطة تحول عظمى في التاريخ الاسلامي، اذ ان دخول الاسلام الحبشة سبق دخوله الى يثرب المدينةالمنورة وتنامى الاسلام في الحبشة مما حدا بأهل قريش الى ارسال وفد الى النجاشي يطالبونه بإرجاع المسلمين الفارين من مكة. ومثلت تلك الهجرات الاساس المتين الذي قامت عليه الممالك الاسلامية في شرق افريقيا قاطبة، وكانت ممالك إفات وعدل وفطجار وبالي من اعظم الممالك التي نشأت في المنطقة. كان لرحلة "الوسط" الى مدينة نجاش الاثيوبية التي تضم رفات النجاشي ما يبررها، اذ اوشك النسيان ان يطوي هذا الأثر التاريخي العظيم، وليت الامر اقتصر على التجاهل الذي يبديه مؤرخو التاريخ الاسلامي تجاه تاريخ النجاشي، بل تجاوز الامر ذلك وبدأت بعض الاقلام تشكك في اسلام النجاشي نفسه، وزاد الطين بلّة حينما تطاول بعضهم على التاريخ وادعوا ان الحبشة لم تكن هي ارض النجاشي سليل اسرة مملكة اكسوم! وتاريخياً يمكن تفسير ذلك الغموض الذي احاط بتاريخ النجاشي. اذ ان الحبشة التي احكمت الكنيسة السيطرة عليها منذ عصور سحيقة، كانت تتعمد تجاهل النجاشي وتاريخه، وكأنها كانت تتبرأ من ان احد اعظم ملوكها اعتنق الاسلام وساهم في نشره، اضافة الى الانظمة التي حكمت الحبشة في تاريخها الحديث والتي كان لها نصيب الاسد في محاربة الاسلام وطمس تاريخه في الحبشة، وذلك ابتداء من تاريخ الاسرة السليمانية النصرانية التي ناصبت الاسلام العداء مروراً بهيلاسلاسي الذي عمل على اضطهاد المسلمين وكان يعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية لا يحق لهم ما يحق لغيرهم، واخيراً جاء الكولونيل مانغيستو الذي قام بتجنيد آلاف المسلمين وزجّ بهم في حروبه الدموية التي استمرت طوال فترة حكمه. ويمكننا ان نجد العذر لمسلمي الحبشة في ما يتعلق بعدم تقديمهم لتاريخهم بشكل مرضٍ، وذلك للاضطهاد الذي تعرضوا له باستمرار، لكننا لا نستطيع تفسير هذا التجاهل العربي والاسلامي تجاه احد اهم الآثار الاسلامية خارج الوطن العربي. تقع مدينة نجاش التي تضم رفات الملك الصالح احمد النجاشي على بعد 60 كيلومتراً شمال مدينة مقلي عاصمة اقليم تجراي. ويقول سكانها ان اسمها مشتق من الكلمة العربية تجارة، ومقلي تعني في اللغة المحلية مقاسمة او مشاركة في اشارة الى تقاسم اهل تلك المنطقة حياتهم مع الصحابة المهاجرين. في طريقنا الى مدينة نجاش ونجاش تعني ملك باللغة التجرينية مررنا بعشرات القرى التي يقطنها احفاد اولئك الصحابة وملامحهم شبيهة بأهل الجزيرة العربية. والغريب ان جميع سكان هذه القرى يحفظون تاريخ تلك الهجرات عن ظهر قلب، ويستطيعون استحضار اسماء جميع اجدادهم حتى يصلوا الى الجد الاخير المتمثل في النجاشي او احد الصحابة. وينتمي معظم سكان هذه القرى الى قبيلتي الساهو والعفار اللتين تعتبران من اقدم العناصر في المنطقة. واثبت بعض الباحثين ان بلال الحبشي مؤذن الرسول ص ينتمي الى قبائل هذه المنطقة. وثبت ذلك بعد مقارنة الشعر الذي كان يردده بلغته الاصلية مرسوماً بأحرف عربية، ووُجد ان تلك الكلمات مطابقة للغة العفارية. والمعروف ان اللغات الحبشية والعربية والعبرية تعود لأصل سامي واحد. من الملاحظات المثيرة للدهشة وجود بعض المسيحيين ضمن سكان تلك القرى، ويرتبطون بصلات قرابة وثيقة مع المسلمين، فهم يلتقون في الجد الثالث او الرابع على اكثر تقدير. وبسؤالنا سكان تلك المنطقة عن هذه الظاهرة أجابوا بأن هذا الامر يعود لنهاية القرن السابق حينما قام "الدراويش" انصار الإمام محمد احمد المهدي السودان بالهجوم على قوندر عاصمة ملك الحبشة يوهانس، وبعد هزيمتهم للملك وقتله قفلوا راجعين، تاركين خلفهم بقايا جيوش يوهانس التي قامت بحملات انتقامية واسعة النطاق ضد المسلمين في تلك المنطقة، انتقاماً لمقتل مليكهم، واضطر بعض المسلمين آنذاك للتنصر خوفاً من البطش بهم. وكانت تلك المناطق التي احتضنت الهجرات الاولى اكثر المناطق تضرراً من تلك الحملات الانتقامية. في طريقنا الى مدينة نجاش مررنا بمدينة وقار على بعد 9 كيلومترات من نجاش وهي من اقدم المدن في تلك المنطقة، وتقطنها قبيلة "جبرتي" ذات الاصول العربية، ويرى بعض المؤرخين ان اصل الاسم "جبرتي" يعود الى الكلمة العربية "جبر" اشارة الى انهم كانوا يجبرون في الماضي على التظاهر بالمسيحية. وعند اقترابنا من نجاش لاح لنا ضريح احمد النجاشي الذي يقع في قمة هضبة تجعله يقع في بصرك حيثما كنت. ويقع الضريح داخل المسجد الجديد الذي بني على مقربة من المسجد القديم الذي بناه الصحابة المهاجرون، والذي يعتبر اقدم مسجد على الاطلاق، اذ انه شيد قبل الهجرة النبوية، وكان الرسول ص واصحابه آنذاك يؤدون صلاتهم بدار الأرقم. وهذا المسجد لا يزال بحال جيدة وكأنه بني بالامس القريب، ويتسع لحوالي 400 مصلٍ، مما يشير الى ان عدد الصحابة المهاجرين كان قريباً من ذلك الرقم. وتوجد بالقرب من المسجد عين ماء، يشبهها أهل المنطقة ببئر زمزم. وتذكر المخطوطات الجلدية التي اطلعنا عليها أن الصحابة المهاجرين استقروا بهذا المكان وفوضوا جعفر ابن ابي طالب للذهاب للنجاشي وتبليغه رسالة الرسول ص. وتذكر المخطوطات أن العطش ألمّ ببقية الصحابة وأهلك بعضهم، وإن الله استجاب دعاءهم وفجّر لهم عين ماء. ولاحظنا أن جميع المناطق المحيطة بتلك المنطقة جرداء، ولا توجد مياه إلا في تلك العين. ويعتقد أهل المنطقة أن مياه هذه العين مباركة، ويقصدها المسلمون من كل أنحاء اثيوبيا لعلاج الأمراض المستعصية. وعلى مقربة من ضريح أحمد النجاشي يوجد ضريح الصحابي عدي بن النضير الذي سبق النجاشي في وفاته، وشارك النجاشي نفسه في دفنه. كما توجد خمسة قبور أخرى تضم رفات الصحابة حاطب بن الحارث، وسفيان بن معمر، وعبدالله بن الحارث، وعروة بن عبد العزى. وعلى بعد 100 متر من ضريح النجاشي، وعلى الضفة الأخرى من نهر عباي، توجد كنيسة "مريم كحدا" وكلمة "كحدا" تعني "رفضت" في اللغة التجرينية، وتذكر المخطوطات أن مريم زوجة النجاشي رفضت الدخول في الإسلام فأقام لها هذه الكنيسة، وفي ذلك دلالة واضحة على التسامح الديني الذي عُرف به النجاشي. وهذه هي الكنيسة نفسها التي وردت في أحد أحاديث السيدة عائشة رضي الله عنها. وتذكر المخطوطات أن نهر عباي كان يمثل الحدود بين مملكة النجاشي وبقية الممالك الحبشية الأخرى، وهذا النهر هو الذي ورد في حديث أم سلمة زوج الرسول ص ابان اقامتها في الحبشة مع المهاجرين، إذ قالت "فوالله إنا لعلى ذلك، إذ نزل رجل من الحبشة ينازعه الملك أي ينازع النجاشي قالت وسار إلى النجاشي وبينهما عرض النيل"، إلى أن تقول إن الغلبة كانت للنجاشي على أعدائه. وقد اثار ورود اسم "النيل" في حديث أم سلمة رضي الله عنها بعض الجدل حول حقيقة مكان الصحابة، إلا أن قلة المعلومات الجغرافية لدى أم سلمة، ووجود قبور الصحابة هناك يؤكدان بأن النهر المقصود هو نهر عباي لا غيره. إضافة إلى ذلك أن الحدود السياسية الحالية لم تكن معروفة آنذاك. وتشير المخطوطات الجلدية التاريخية التي اطلعت عليها "الوسط" إلى أن النزاع بين النجاشي وأعدائه المسيحيين نشب بسبب تبني النجاشي للإسلام وحمايته للمسلمين، ولهذا الأمر دلالة كبيرة في التاريخ الإسلامي، لا سيما أن عدد المسلمين في الحبشة آنذاك كان ضعف عددهم في مكة. وكان بين أولئك الصحابة ثلاثة من العشرة المبشرين بالجنة وهم عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف، إلى جانب صحابة آخرين كان لهم دور كبير في مسيرة الاسلام لاحقاً. واحتوت المخطوطات على تفاصيل دقيقة عن حياة النجاشي، وتتطابق تلك المعلومات مع التاريخ الموثق عن هذا الملك الصالح. ويذكر بعضها أن النجاشي ولد في فترة ازدهار مملكة اكسوم الحبشية، وهو ابن أحد ملوك اكسوم الذي كان يدعى أبحري، وقد تآمر عم النجاشي على أبحري وقام بقتله، ونفى ابنه النجاشي إلى اليمن حيث عاش فترة من الزمن هناك، حيث تعرف على عادات العرب ولهجاتهم. وورد أن بلاد الحبشة في غياب النجاشي قد شهدت جفافاً ونقص فيها الخير، وفسر أهل الحبشة ذلك بنفيهم للنجاشي ومن ثم أعادوه من اليمن ليتسلم مقاليد الحكم، وبعد مجيئه شهدت الحبشة أعواماً مزدهرة وعمها الخير، وتثبت المخطوطات أن حكم النجاشي وأسرته المسلمة استمر لفترة 320 عاماً ساد فيها العدل. وتشير المخطوطات إلى أن النجاشي كان له ثلاثة أبناء: اريحا، وعبدالله، وأبو نيرز الذي أصبح مولى لعلي بن ابي طالب. ولما توفي النجاشي ارسل أهل الحبشة وفداً منهم إلى ابي نيرز، وهو مع علي ليتوجوه ملكاً، فقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن منّ الله عليّ بالإسلام. ومن المعروف ان الرسول أطلق على النجاشي "أصحمة"، إلا أن المخطوطات تشير إلى أن اسمه الأصلي "أدري أز" وذلك طبقاً لإرث شعب التيغراي صاحب حضارة أكسوم. وتطابق معلومات هذه المخطوطات التاريخ المثبت في ما يتعلق بردّ النجاشي على عمرو بن العاص وعبدالله بن ابي ربيعة موفدي قريش، إذا قال النجاشي "لا تا الله إذن لا أسلمهم اليكما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي حتى ادعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان اسلمتهم اليهما ورددتهم الى قومهم، وإن كانوا غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني". وتوالت بعد ذلك الأحداث المعروفة بأن طلب النجاشي سماع الطرفين، ورفض طلب وفد قريش عندما قال انه لن يسلم هؤلاء المهاجرين ولو دفعت قريش "دبر" ذهب، وكلمة "دبر" تعني جبل باللغة التجرينية. وتواصل المخطوطات في سياق مماثل سرد كيفية دخول النجاشي في الاسلام، مشيرة الى الفطرة السليمة ونزعة الايمان التي كانت متأصلة فيه، إذ كان ملكاً عادلاً لم تعرف مملكة أكسوم نظيراً له في العدل. وتوفي النجاشي في السنة التاسعة للهجرة، ونعاه الرسول ص في اليوم الذي مات فيه وصلى عليه بالبقيع، وأكرم الله النجاشي بأن رفع سريره بأرض الحبشة حتى رآه النبي ص وهو بالمدينة فصلى عليه، وتكلم المنافقون فقالوا: أيصلى على هذا العلج؟ فأنزل الله تعالى قوله: "وان من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل اليكم وما أنزل اليهم" آل عمران 199. التقت "الوسط" في مدينة نجاش الامام الحالي لمسجد النجاشي زينو اسماعيل، الذي ورث امامة المسجد من جده الرابع، والتقت ايضاً مؤذن المسجد داود علي الذي ذكر ان هذه المهمة مقصورة على أسرته فقط، وهم يتوارثونها أباً عن جد. وذكر انه ورث هذه المهمة من جده الخامس، وينطبق الأمر نفسه على حارس المسجد. وهم يعتبرون مهامهم هذه ذات طابع قدسي، ويحيطونها بكثير من الاهتمام والتقدير، وفي حال انقراض أسرة أحدهم فإن المهمة تنتقل تلقائياً لأسرة أخيه. وفي حوارنا معهم ذكروا ان هناك مزيداً من الأدلة التاريخية المتعلقة بالنجاشي، لكنها موجودة في وثائق تحتفظ بها بعض الكنائس. وهذا الأمر مألوف، فمعظم وثائق التاريخ الحبشي توجد في خزائن الكنائس. وأضافوا ان تلك الوثائق تحتوي على اشارات واضحة تفيد بأن النجاشي هو الملك الذي أدخل الاسلام في الحبشة. كما التقت "الوسط"، الشيخ احمد حاج الأمين سكرتير اللجنة العليا لاحياء مآثر احمد النجاشي ويطلق أهل المنطقة اسم احمد على النجاشي. وذكر لنا انه وبعد التغييرات الديموقراطية الكبيرة التي شهدتها اثيوبيا في الآونة الأخيرة اضحت للمسلمين حقوق متساوية حفظها لهم الدستور الجديد الذي نص على ان المسيحية والاسلام هما الديانتان الرسميتان في البلاد. وأكد سكرتير لجنة النجاشي ان الظرف الراهن يمثل فرصة تاريخية للمسلمين لاحياء تاريخهم وارثهم بأثيوبيا، وناشد جميع المنظمات الاسلامية والجهات المعنية بالتراث الاسلامي تقديم يد العون والمساهمة في احياء هذا الارث الاسلامي العظيم، وذلك بالعمل على توثيقه وتنقيحه والاحتفال بذكراه سنوياً اسوة ببقية المناسبات الاسلامية الأخرى. والتقت "الوسط" غبرا أسرات حاكم اقليم التيغراي الذي يضم مدينة نجاش، فأكد ان اثيوبيا الجديدة تنظر الى تاريخها نظرة متكاملة، وتعتبر تاريخ النجاشي جزءاً لا يتجزء من تاريخها وأرثها، وأكد حاكم الاقليم انه يولي هذا الارث اهتماماً خاصاً ويقوم شخصياً برعاية اللجنة المكلفة بأحياء تراث النجاشي. وتجولت "الوسط" في مدينة نجاش والقرى المحيطة بها حيث ينتشر الفقر والجهل وسط السكان. وعلمنا ان الحكومة منحت أراضي لمسلمي مدينة نجاش لاقامة معهد ومدارس اسلامية، إلا ان قلة امكانات أهل المدينة تقف عائقاً امام تنفيذ تلك المشاريع. ولاحظنا نشاط بعض المنظمات الغربية في تلك المناطق. ومن مفارقات الأقدار ان تقوم منظمات غربية بتقديم المساعدة لأحفاد النجاشي وأحفاد بعض الصحابة، في حين تسجل المنظمات العربية والاسلامية غياباً كاملاً، وكأن هذه المنطقة التاريخية لا تعنيهم في شيء! وهذا الأمر كان بالامكان تفسيره في ظل الأنظمة الاثيوبية السابقة التي كانت تتعمد طمس التاريخ الاسلامي في اثيوبيا، إلا انه في ظل النظام الحالي فجميع الأبواب مفتوحة أمام كل المنظمات للعمل في اثيوبيا