تعود الإنسان على العمل منذ ولادته، لأنه منذ أن يخرج من رحم أمه يجد نفسه مسؤولا عن الرضاعة، بعد ما كانت المشيمة تنوب عنه، وبعد ذلك عليه أن ينقلب، يزحف، يحبو ويجلس، وأن يتحمل تبعات خطواته الأولى حتى يمشي. يدخل المدرسة، يتعلم ويعمل ويكوّن أسرة. وتمضي حياته في كبد، حتى يبلغ عمرًا يفرض عليه الراحة، فيعتزل حياته التي اعتادها، ليشعر بالفراغ فجأة. وهنا يبدأ يكتشف أشياء لم يكن يعرفها في بيته، تفاصيل طمسها الانشغال، وهذا عادة يحدث للرجال، لأن المرأة وإن كانت عاملة تجبرها واجباتها الأسرية على عيش كل هذه التفاصيل. يتجه بعض الأزواج المتقاعدين إلى مهام جديدة وغريبة أيضا في المنزل، فربما تجده يراقب أفعال كل فرد من العائلة عن كثب، ينتقد زوجه وتصرفات أبنائه، وقد يتدخل في العديد من التفاصيل مثل طريقة الطهي وما يخص المطبخ، وربما قد يجبر أبناءه على الاستيقاظ مبكرًا وينهر من يسهر فيهم. وفي هذه المرحلة الحرجة يتحول الزوج إلى شخص شديد العصبية ومختلق للمشكلات دون أي أسباب منطقية. توصلت دراسة بريطانية ليست بحديثة إلى أن ملايين الأزواج يجدون صعوبة كبيرة في العيش معا بعد التقاعد، وقالت الدراسة إنه بدلا من سعادتهم بأنهم أصبحوا أكثر حرية للاستمتاع بوقتهم معًا، يكتشف 8 من 10 أزواج أنهم لا يتشاركون الهوايات والاهتمامات نفسها، ويتشاجر اثنان من كل 5 أزواج بسبب الحالة الاقتصادية أو يتجادلون حول أشياء سخيفة. واعترف بعض الأزواج المتقاعدين أنهم كانوا بحاجة لتعلم كيفية العيش معًا مرة أخرى، بعد زواج الأبناء واستقلالهم والفراغ. التقاعد مرحلة من مراحل عمر الإنسان، رغم أن هناك مهنًا لا يليق بها التقاعد، كالطب مثلا. فالطبيب كلما كبر ازدادت خبرته، ونضجت شخصيته ولمع اسمه، ومع ذلك يتقاعد الطبيب، المهندس، المعلم والطيار، كل المهن تسمح لأصحابها بالراحة بعد مشوار من العطاء، رضوا بذلك أو تذمروا، عليهم أن يتقبلوا ذلك، أن يجهزوا لهذه المرحلة، يخططوا لها، حتى لا يقع المتقاعد في اكتئاب التقاعد ولا تعاني زوجاتهم من متلازمة الزوج المتقاعد، وهي متلازمة تعاني منها العديد من النساء حول العالم، حيث تشعر الزوجة بالتوتر والاكتئاب وعدم القدرة على النوم بمجرد أن يتقاعد الزوج عن العمل، على أن هذا البحث أجري في اليابان، إلا أنه يصيب معظم نساء العالم، وهذا نتيجة أن الزوجين يجدان نفسيهما فجأة وجهًا لوجه، وعليهما أن يقضيا وقتًا أطول معا بعد ما كانا مشغولين بروتين الذهاب للعمل ورعاية الأطفال. وأوضحت دراسة يابانية أخرى أن الموقف يكون فى الحقيقة أسوأ بالنسبة للزوجات العاملات، حيث تبين أن آثار التقاعد تكون أقوى عليهن لأنهن يعانين بالفعل من ضغوط الوظيفة ولا يسعفهن الوقت للتعامل مع الطلبات الزائدة لأزواجهن المتقاعدين. وذكرت بعض الدراسات أن الصحة العقلية للرجال من الممكن أن تقل بعد التقاعد، ما يؤثر سلبيًا في الزوجة. الجميل في الأمر أن 9 من بين كل 10 أزواج متقاعدين ما زالوا يستمتعون بحياتهم سويًا، رغم اختلاف الهوايات وجدال المطبخ، الجزء الأساسي في التقاعد السعيد هو التخطيط، فالزوجان اللذان يخططان لتقاعدهما من المرجح أن يقل جدالهما ويستمتعا أكثر بصحبة بعضهما، الناس يتقاعدون من العمل وليس من الحياة، التقاعد قد يكون فرصة لممارسة الأشياء التي ربما ظروف العمل حالت دون فعلها، وكذلك الاستمتاع بحضن العائلة والأحفاد. ربما تعديلات نظامي التقاعد المدني والتأمينات الاجتماعية ورفع سن التقاعد النظامي، ستحسن جودة الحياة لمن تجاوز الخمسين، وتقلل من وطأة الإحساس بالفراغ، أم أن الأمر يتعلق ببيئة العمل ونوعه؟! بيئة العمل إمّا أن تكون محفزة أو مُحبطة، ليصبح التقاعد حلمك وأنت ما زلت في الثلاثين من العمر.