مع بداية مرحلة السبعينيات بدأت حجب كثيفة تغطي وجه الحياه الثقافية المصرية، ومع وصولنا إلى عام 1984، أي بعد أربعة عشر عاما من أعمارنا المحدودة، ما زلنا نجاهد كي نعود إلى البديهيات التي حدث تراجع عنها مع بداية السبعينيات، حتى نهاية حقبة الستينيات، والتي لحق جيلي شظاياها الأخيرة وعاشها في مرحلة أقولها، كانت هناك مقاييس أدبية في الواقع الثقافي، مقاييس صارمة تسمح بتوفر مناخ من الجدية والظروف التي تتيح الانتقاء، وفرز الزائف من الحقيقي، وكان ميلاد موهبة جديدة أمر تحتفل به الأوساط الأدبية، أذكر أن توفيق الحكيم قال لي إنه عندما طبع مسرحيته الأولى (أهل الكهف)، قدمها إلى القراء الشيخ مصطفى عبد الرازق، والدكتور طه حسين، ولم يكن قد التقى بهما، أو تعرفا إليه، لم يسأل أحدهما، من هو توفيق الحكيم، أهو شيوعي أم وفدي، أهو حر دستوري، أم سعدي ، تعاملا مع النص الأدبي، وعندما وجدا فيه ما يستحق قدماه على الفور. وبعدها سأل الشيخ مصطفى عبد الرازق، من هو توفيق الحكيم، أهو مطربش أم معمم؟ فقيل له، لا إنه أفندي مطربش. كان ميلاد الموهبة أمرا يخص الوطن كله، ولكن عشنا حتى واجهنا وضعا أصبحت فيه الموهبة جريمة، وأصبحت مصر الرسمية تغتال أبناءها كالقطط، لقد كانت المقاييس الأدبية السائدة حتى نهاية الستينيات تضع من الأسس ما يكفل تقييم كل موهبة، بغض النظر عن الاتجاه السياسي، أو الانتماء الاجتماعي؟ كانت الموهبة هي الأساس، وكانت هذه المقاييس نابعة من مناخ جدي يكفله عدد من العوامل، أهمها، وجود منابر ثقافية محترمة، مثل المجلات، «مجلة المجلة» التي رأس تحريرها دكتور حسين فوزي، دكتور علي الراعي، وأخيرا كاتبنا الكبير يحيى حقي، ومجلة الهلال العريقة، ومجلة (الفكر المعاصر) ومجلة (التراث الشعبي) ومجلة (المسرح) ومجلة السينما، الملحق الأدبي الشهري لمجلة الطليعة، ومجلة الكاتب، إضافة إلى الصفحات الأدبية في الجرائد اليومية، أولها صفحة المساء التي كان يشرف عليها الفنان عبد الفتاح الجمل، والتي تخرج منها سائر وأبرز كتاب الستينيات، والملحق الأدبي للأهرام الأسبوعي، والذي كان يخيل لي ذات يوم أنني لن أنشر فيه إلا بعد أن يسري المشيب في شعري، وأتوكأ على عصاي، ولكون قد بلغت من المرتبة الأدبية أرفعها، وإذا بالأيام تمر، والسنين تمضي، ويتدهور المستوى الأدبي لملحق الأهرام بعد أن هجره لويس عوض، ومرت فترة طويلة، لا يطالع الإنسان فيه إلا رديء الأعمال، وقصصا يسبق اسم مؤلفيها رتبة الوظيفة، ولم يكن ممكنا أن أفكر مجرد التفكير في نشر قصة بهذا الملحق الذي كنا نحلم بالنشر فيه يوما .. كانت الموهبة إذن هي الأساس، والمقاييس السائدة والمستقرة التي تضرب جذورها في بدايات عصر التنوير في القرن التاسع عشر تكفل تقييم كل كاتب بما يستحقه، ولم يكن صدفة أبدا أن من أول القرارات التي اتخذت بعد مايو 1971، العام الذي استقر فيه الرئيس السابق في السلطة قرار إغلاق المجلات الثقافية الجادة، بدعوى أنها تخسر، وتقليص دور الدولة في النشر، وتشجيع المواهب الجديدة، في هذه المرحلة بدأت النظرة العدائية ضد الموهبة، واعتبار كل كاتب موهوب معاد لما يجري، لماذا؟ في رأيي أن أي كاتب موهوب يعبر عن الحقيقة بصدق. يعبر عن جوهر الواقع، وأن يعبر الكاتب الموهوب عن جوهر الواقع والحقيقة فإن ذلك يعني أنه يتخذ موقفا إيجابيا مع الإنسان، نحو التقدم، وضد قوى التخلف والرجعية، والجهل، والظلام، أقول إن الكاتب الموهوب يقف مع التقدم في جوهره حتى لو كان يجهر بآراء قد تبدو نظريا متخلفة مع بداية هذه المرحلة، كانت هناك فئة من الجهلاء والسطحيين موجودة في الساحة الأدبية، وقد سماهم الدكتور جلال أمين بحق (مدرسة الماجزين في الثقافة المصرية)، كان بعض هؤلاء يحتلون مناصب عليا، بل في الحركة الثقافية نفسها، ولكن التقييم النقدي والعلمي لأدبهم كان يضعهم في إطار معين دون نجيب محفوظ على سبيل المثال، بدأ هؤلاء العاجزون يتسللون إلى مراكز التأثير في الحياة الثقافية، خاصة بعد إغلاق المنابر الجادة، واستبدالها بمنابر هزيلة. 1984* روائي وصحفي مصري ( 1945 - 2015 )