كتبتُ نصًا مسرحيًا، وسميتُه -بعد جدالٍ طويل مع ذاتي- (دوائر)، ثم نفثتُ على النصِ نفثةَ مصدور قائلًا: أتمنَّى ألا تَدور عليكَ الدوائر...!. وكنتُ حين أُسألُ عن فكرةِ النصِ، أقول: «اقرأ النصَّ وستعرف!!» ثم اكتشفتُ أنَّ الناسَ ليست فارغةً لدرجةِ القراءةِ لكلِّ مَن هبَّ ودب، فاضطررتُ أن أقولَ لأحدهم بعد إلحاح: إنَّ فكرةَ النصِّ هي «الحقيقة في ثوبِ الحياةِ اليومية». هذه الإجابة وقعت في مَقهى يَعجّ بدخانِ الشيشة، ولما هَدأ العَجاج، فإذا بشابٍّ يَستَرق السَمعَ كأنَّه شَيطانٌ فَلت من العقاب!، ولشدةِ دهشتِه بما سَمع، قال لي: «فكرة النصِّ تُشبِه اللاعب ميسّي». التفتُّ إلى صديقي متعجبًا، فإذا به فاغِر الفم متيبّس الشفاه من طولِ ما تعجّب: كيف لنصٍ أن يُشبِه ميسّي؟! لم يُمهلنا الرجلُ كثيرًا بل أعطانا ضربةً جديدةً حين قال: «مِيسّي هو شاعر اليوميّات، يُشبِه مشردي الفلسفة، وهذا ما فهمتُه من فكرةِ المسرحية». يا لقلبي وأنا أسمع كلمة «مشردي الفلسفة»، من أين له هذا الوصف الذي رآه في لاعبٍ ملأ الدنيا وشَغل الناس!!. فانطربتُ كأنَّني في ملكوتٍ آخر، وقلت له: «زِدني»، قال: التشرد مصطلح نَفهمه على أنَّه نقيضُ المأوى الثابتِ الآمن، والحياة الرتيبة، وفي الفلسفة هناك مَن يَقضّ مضجع الهدوء والسكينة، وهذا هو مِيسّي في الملعب، لا مأوى له ولا مركز حقيقي نستطيع من خلاله أن نحدد بؤرتَه، ولا هدوء إلا ما يَسبق عاصفةَ الأهداف، إنَّه (مُشَرّد) الملاعبِ الذي يُغربل الحقائقَ أمام أعينِ محبّي كرةِ القدمِ...!، هذه الغربلةُ للحقيقةِ تَظهر لنا في حياةٍ بسيطةٍ، ولعبةٍ شعبية، تَظهر لنا في الوسيلةِ التي يتلاعب بها مِيسّي بأكثر من طريقٍ حتى يَصِلَ إلى هدفه، ثم بعد الهدفِ تُؤخَذ الكرة من جديد إلى نقطةِ البداية، وهكذا نكون في دوائر تصنعها لنا كرة القدم، ويصنعها لنا مِيسّي الذي يُشبِه المسرحيةَ. إنَّ كرةَ القَدمِ وبساطها الأخضر، وجماهيرها الشعبيين، ولعبة الحقيقة فيها، هي التي حَلّت محلَ خشبةِ المسرح، تلك اللعبة القديمة التي أوهمتنا أنَّها تُحاكِي الحقيقة. قلت له: في كلامك سحر المجهول وشهوة المحسوس، والحقيقة أنّي لا أعرف مِيسّي جيدًا، ولا أعرف كرةَ القدم كثيرًا، لكنّي أعرف سعيد العويران، الذي أظنُّ أنَّ هدفه الأسطوري عام 94م ينطبق عليه وصف (عدميّ)؛ إنه تَجرّد من مركزه، وتعليمات المدرب، وانطلقَ يَخترق الصفوف، تاركًا وراءه دهشةَ اللاعبِ الأصيل الذي يَرقص في الملعب بلا هدفٍ حقيقي، فقط يصرخ: العبوا كما يَلعب الإنسان، وسيأتي الهدفُ المتعلّق برقبةٍ هدفٍ آخر. نظرتُ في وجه الرجل فرأيتُه بلا ملامح، وكأنّه لم يُعجبه وصفَ تفكير العويران على البساطِ الأخضر. ولكوني أحبّ الأشخاصَ المتجدّدين المدهشين، تواعدتُ معه على لقاءٍ خاصٍّ. جاءَ ومعه كتاب (فيم نُفكِّر حين نُفكّر في كرةِ القدم؟) لسايمون كريتشلي، وقال: هذا الكتابُ سيُفنّد قولَك عن العويران؛ لأنَّه يقول إنًّ اللعبَ لا يَحدث في الدماغِ فحسب، بل هو ظاهرة تُولَد في مكانٍ بين اللاعب والعالم المحيط به. أما العويران فقد كانَ دماغه يلعب وكأنَّه بلا خبرةٍ مع الملعب، لهذا كثير مِمّن رأوا الهدفَ قالوا (صدفة)!!، لكن ميسّي هو من يمتلك خبرة التوازن بين الدماغِ والمستطيل الأخضر. التفاتة: من غنائم اللقاء: 1 - أنَّ بين المديحِ والوصفِ شَعرة، يُحدِّدها مُشَاهِد المباراة، إذ الوصف (موضوعيُّ) في تجرده وحياده، والمديح (ذاتيُّ) في انتقاءِ الألفاظِ التي تجعل من الموصوف ممدوحًا، بصورةٍ ظاهرةٍ أو مضمرة. وهذا ما جعل الكثير يمدح هذه القوة الكرويّة (ميسّي)، ولكن في لباسِ الوصفِ المسبق. أي أنَّ المديحَ سابقٌ لإبداعيّة الوصف؛ وذلك لأنهم يَميلون إلى الفرد الذي يُلبّي حاجةَ الشعورِ الجمعي في بحثِه عن بطلٍ ما. 2 - أنَّ اللاعبَ الذي يَضع أجوبتَه مسبقًا، ولا يكون منفتحًا على فضاءِ الملعبِ وحريتِه، فإنَّه يَنغلق على (تكتيكات)، تُرضِي تلك الأجوبة المعلّبة. إنها تُشبِه بعضَ التحولاتِ في القصائدِ الشِعريةِ حين تأخذ شكلَ الجديد، لكنَّها مغرقةٌ في القديم. وقتها تذكرتُ فيلسوفَ الكرةِ السعودية يوسف الثنيان، كم كان (سُفسطائيًا) يُطربني وهو يُجندِل أبناءَ (سقراط) في البساط الأخضر. 3 - أخبرني هذا الصديق الجديد أنَّ سايمون كريتشلي يَتهكّم على تقنيةِ ال(ڤار)، لأنَّ أصالةَ اللعبة تكمن في أنَّ قرار الحكم جزء من (اللعب الآني)، وليس كونه صحيحًا.