تمر الأمة اليوم بمرحلة من المراحل الصعبة وهذه سنة الحياة التي تجري على كل الأمم فتتقلب بين مراحل مختلفة، اليوم الحروب الأهلية تعصف بعدة بلدان عربية والمخاطر تحيط بالأمة من عدة جوانب، وهذا الوضع ينعكس بالضرورة على نفسية ومزاج ومعنويات الفرد، لكن التاريخ يحدثنا بأن مثل هذه الأزمات تصقل وتنتج عقولا نهضوية كبيرة، وذلك عندما يتحول هذا الغضب إلى وقود يدفع الفرد لتقديم شيء يسهم في إصلاح واقع مجتمعه، كما يصف الإمام الغزالي ذلك في كتابه «كيمياء السعادة» إذ يمثل الإنسان بالمدينة ويجعل القلب ملكها والعقل الوزير والغضب القوة والشحنة، ويقول يجب ألا يكون الغضب تحت إمرة القلب ولكن تحت إمرة العقل «بحيث يوظفه كوقود للهمة». والشواهد من التاريخ كثيرة على ذلك ولكن سنأخذ في هذا المقام مثالين من واقعنا المعاصر، وهما شخصيتان لا زالتا بيننا- نسأل الله لهما العمر المديد- جاء إنتاجهما من رحم هزيمة 67. الأول هو الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن الذي غيرت هزيمة 67 مسار حياته، فقد كان مهتما بالفقه والشعر حتى إن أشعاره أوصلته إلى أن يكون أصغر عضو في اتحاد كتاب المغرب العربي، ولكنه نتيجة لصدمة الهزيمة ترك الشعر وتوجه تفكيره نحو العقل الذي حمله مسؤولية الهزيمة، فعكف على دراسة العقل وأنتج عشرات المؤلفات في المنطق والفلسفة والفكر، مؤلفات هي من أجود ما كتب هذا الجيل والتي جعلها لبنات في بناء مشروعه النهضوي، وهي صالحة لأن تُستخدم سواء كاملة أو مجتزأة لبناء أي مشروع آخر، وهذا حال أي نتاج فكري سليم. والشخصية الأخرى عالم الرياضيات والفيلسوف المصري رشدي راشد الذي تحول بشكل مباشر بعد صدمة 67 وقرر أن يكرس حياته للمساهمة في بناء حضاري للمستقبل بعد أن «سقطت أوهام الحاضر» كما يصف هو ذلك، وتبنى مشروعا يهدف إلى تكوين عقلية أصيلة قادرة على اللحاق بركب الأمم المتقدمة. وبسبب هذا الإصرار والعزيمة أنتج عشرات المؤلفات والأبحاث وأصبح رمزا مهما في مجاله، وإسهاماته وآرؤه حول النهضة العربيه والعقل العربي سوف تكون مادة غنية للأجيال من بعده يستفيدون منها لتحقيق أهدافه. وبطبيعة الحال مثل هذه الأزمات القاسية تزلزل آخرين وهذا شيء طبيعي يحصل مع هكذا ظروف في جميع الأمم وعبر التاريخ. فهناك من ينسلخ من واقعه مغمض العينين ليفر إلى الماضي، وهناك من ينسلخ من جميع ثوابته ليذوب في الآخر. وهذان النوعان تزايدا بعد 67 مما دفع وأنتج عقولا راسخه تتصدى لهما وتصحح فكرهما، من أمثال محمد عابد الجابري والطيب تيزيني وآخرين.. كرسوا حياتهم لإنتاج فكري نهضوي أصيل مرتبط بحاضره وأمته. هؤلاء المفكرون وغيرهم من أبناء جيل 67 لم يكونوا معروفين أثناء الهزيمة بل كانوا شبابا صغارا ولكنها أنتجتهم. اليوم تشعر بعض الشعوب العربية خصوصا ممن تعيش أوطانهم حروبا أهلية بالتشاؤم والغضب من الواقع، لكن يفترض أن يُوظف هذا الشعور ليكون دافعا للدراسة والبحث والإنتاج ولا يضيع أملنا في الله أبدا، وكما قال أنس الحجري: سَتمطرُ الأرضُ يَومًا رغمَ شِحّتِها ومِن بطونِ المآسي يُولَدُ الأملُ.