التاريخ المكتوب يجعلنا نتحيز في استقرائنا دون أن نشعر، فبإمكان اليساري أن (ينتقي) من التاريخ ما يدعم قراءته للمستقبل، وبإمكان اليميني أن يفعل الشيء نفسه، ليصبح التحليل (الموضوعي) مجرد تحليل (أيديولوجي) للتعبئة الشعبوية. ومن خلال توريط الكاتب لنفسه بهذه المقدمة، هل بالإمكان مواصلة الكتابة في حقل مليء بالأشواك الظاهرة على الأرض والألغام تحتها لاستقراء وجهة (معقولة) في إثارة مزيد من الأسئلة على هامش السؤال الرئيس: إلى أين نسير؟ هل من حق الكاتب قسمة هذا السؤال بين طريقين ظاهرهما مختلف لكن الموجع أن كل الطرق تؤدي إلى (روما واحدة) خلاصتها على الخريطة السياسية ثابت ومتغير، فالثابت (ضمان أمن إسرائيل على خطى الجدار الحديدي لجابوتنسكي 1923) والمتغير (توافقات كبرى ذات طابع خشن في ملء الفراغ الناتج عن انحسار زمن القطب الواحد)، كما حصل من (خشونة) في ملء الفراغ الناتج عن انحسار زمن القطبين (سقوط واندماج دول وانقسام دول، وتحول دول إلى فاشلة)، كما حصل قبلهما من (خشونة) في ملء الفراغ الناتج عن انحسار زمن الرجل المريض (انحسار دور العثمانيين إلى حدود تركيا الحالية، بعد أن كانت تمتلك أراضي تغطي قرابة 42 دولة قائمة حالياً، وظهور اتفاقية سايكس بيكو ونشوء الدول القومية في العالم العربي)! الطريقة الأولى في الشرق: تسير برؤيتها للأمام وفي هذه (الرؤية الكبيرة) باتجاه (ميلاد نظام عالمي جديد) تدوس بعض الدول شوكها الذي وضعته قديماً حولها (الستار الحديدي/موسكو مثالاً) لتعيش مجتمعاتها (الانغلاق) تحت تخريجات لغوية تسمي الانغلاق (محافظة)، وشتان ما بين بريطانيا (المحافظة) على تراثها بين دولة (منغلقة) تهدم بعض تراثها، هذه المجتمعات المنغلقة قررت أن تدوس شوكها الذي وضعته حولها تاركة مهمة نزع شوكها لأجهزتها الأمنية (تنزع شوكها الذي زرعته بيديها لتنزعه عنها بيديها أيضاً)، لقد سارت للأمام كي تصبح جزءاً من العالم وثقافته في القرن الحادي والعشرين، فهل هذا (التقدم الكبير للأمام/ المستقبل كما تراه) يخلق فيروسات اجتماعية وسياسية تؤثر على نسيجها الاجتماعي (المنغلق لعقود)، لنرى ما يشبه إصابات القبائل المعزولة في محميات عندما جاءها الرجل الأبيض فنقل إليها فيروسات وجراثيم اعتادها جسده وصنع مناعته ضدها، بينما أصابت هذه القبائل البدائية تلك العدوى بشكل جماعي رهيب ومخيف، مما جعل تلك القبائل ولعقليتها البدائية تتوهم أن تلك الأمراض (سحر أسود) سببه الرجل الأبيض، فلا هي تقدمت سوى في استهلاك المعلبات المستوردة بدلاً مما كانت تأكله من أرضها بقلاً وفوماً وعدساً، ولا تطورت صناعياً سوى في ما تقوم بتجميعه لصالح شركات عابرة للقارات، فهل هذا هو الشرق وقد تزعمته الصين والهند؟! ويبقى الزمن هو الفيصل في ما حكاه عبدالله القصيمي عن شهوة العربي في (ادعاء الوصول للقمر) ويصدقه العالم، أكثر من اهتمامه الفعلي (بالوصول إلى القمر) ولو لم يصدقه أحد!! وهنا يتجلى الفرق الحضاري بين (عقل علمي) مشغول بما ينفع و(عقل ميتافيزيقي) مشغول بما يبهر/ يسحر. الطريقة الثانية: تسير محملة بأيديولوجيا تاريخية تعبوية تمشي على قدمين (التاريخ القديم/إسلامي حركي، التاريخ الحديث/قومي عربي اشتراكي) في حالة (مراوحة) تشبه مراوحة العسكري في مكانه يرفع قدماً ويخفض أخرى، فلا هو يقف بثبات على قدميه ولا هو بالسائر للأمام، فالقدم الأولى كأنها للوراء، والقدم الثانية كأنها للأمام، وسياق الأحداث طيلة ما يزيد على نصف قرن تؤكد أن هذه المراوحة في نتائجها كانت أقرب (لسحبة مايكل جاكسون) المتجه بوجهه للأمام وجسده يسير للخلف أثناء أدائه الاستعراضي (الراقص)! ساطع الحصري كتب خطاباً في أربعينيات القرن الماضي وجهه للسيد جوليان هكسلي أول مدير لمنظمة اليونيسكو ينتقد رغبة هكسلي في جعل دول المشرق العربي ضمن مجموعة تركياوإيران والأفغان، متجاهلاً دول المغرب العربي، ويراه ساطع الحصري فصلاً تعسفياً لا علاقة له بمعنى (التربية والعلوم والثقافة) التي ترفع شعارهما تلك المؤسسة، ومبرراته كثيرة منها أن (المكسيك والأرجنتين مثلاً قريبتان جداً من إسبانيا من الوجهة الثقافية بالرغم من عظم المسافات التي تفصل بينهما، وبعكس ذلك مدينة دوفر الإنجليزية بعيدة جداً عن مدينة كاليه الفرنسية من الوجهة الثقافية بالرغم من القنال الذي يقربهما، -ولهذا ففي نظر الحصري- أن سوريا من الوجهة الثقافية أقرب إلى تونس منها إلى تركيا، والعراق أكثر جواراً من مراكش منه إلى إيران)، ونضيف من عندنا ما نعرفه من أن المشرق والمغرب العربي تجمعهما لغة واحدة يستشهدون فيها بقصائد المتنبي كدلالة على واقعهما الأدبي، وتلامسهما تخريجات ابن خلدون في معناهما الحضاري، ويجمع بينهما في الطرب الرفيع (أم كلثوم وفيروز). هل المستقبل يسير لصالح الطريقة الأولى أم الثانية؟ وهل ساطع الحصري مثلاً (1880 1969) يملك من العدة المعرفية ما يناسب زمننا هذا (زمن الصورة ووسائل التواصل والذكاء الصناعي) ويسميه الغرب (ما بعد الحداثة) ويلخصه البعض بزمن (سيولة المعنى) كنوع من (الارتياب الفكري والكاوس/التيه)، بينما (المعنى) طيلة التاريخ الإنساني كان يسير في (هرمنيوطيقا/تأويلية) غير منتهية وما زال، فالمعنى سائل منذ ميلاد العقل البشري، ويتجمد فعلاً في مجتمعات علمت أطفالها الخوف والتشاؤم من بومة منيرفا لتتركهم محلقة باتجاه أرض جديدة يملك أصحابها (الجرأة على استخدام العقل). دلالة (سيولة المعنى) في توصيف ما بعد الحداثة أقرب لمراوغة الرأسمالية في تعميم فضائها، من دلالة (الديالكتيك/الجدلية) التي تكشف ما تحت فستان المراوغة الرأسمالية من (بوليميا/نهام عصبي) يراوح ما بين استهلاك واستفراغ مرضي. العروبة في عز صعودها أخذت أكثر من لون (قومي، بعثي، ناصري) وقبلها الدين نفسه استطاع الدخول في جدلية التاريخ بما يتناسب وميلاد كل دين إبراهيمي وفق تقاطعات متداخلة يؤكدها (علم الاجتماع الديني) باعتبار الأديان ظواهر اجتماعية تستدمج الثقافي والجغرافي والتاريخي لتصنع تناقضات (الخلاف إلى حد الاحتراب حتى في الدين الواحد) أو تصنع فسيفساء (الاختلاف والتنوع الجميل حتى بين الأديان المختلفة) التي حاولها ابن عربي عندما قال قبل تسعة قرون: (لقد صار قلبي قابلاً لكل صورة، فمرعى لغزلان ودير لرهبان، وبيت لأوثانٍ وكعبة طائف، وألواح توراة، ومصحف قرآن، أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني). لا أظن أن (ما بعد الحداثة) سيولة للمعنى بقدر ما هو (اهتزاز يقين الرأسمالية في ذاتها) وتوهم اليسار أن هناك فراغاً يستطيع أن يملؤه من خلال أدبيات كلاسيكية في حقوق العمال، متناسين أن المستقبل يريد إنجاب ال(براكتوبيا Practobia) وفق أطروحة عالم المستقبليات الفين توفلر، مع ما في ذلك من تجاوز لطبقة العمال بالمعنى التقليدي مقابل الآلة، ليتفاجأ بقايا التروتسكية في أمميتهم وقد اختفى العامل من المصنع، فعن أي بروليتاريا نتحدث؟! ويبقى الفقر ملوناً يتخفى بذكاء في شرايين الفقراء دون أن يشعروا، فهل يختفي الوعي الطبقي؟ أم سيبقى في الفكر ما يكشف ويعري زيف الألوان الجديدة التي يصنعها المستقبل لتغييب الوعي واستنزاف سؤال الاغتراب في مجهود عدمي نرى مخاضه في فوضى ومواجهات بين زمن يولد وزمن يموت، ما بين فكرة أصبحت أرملة بلغت سن اليأس وأبناؤها هرموا، وفكرة شابة رحمها خصب وتبحث عن عريس لتملأ الأرض بمواليدها الجدد.