جعلت جماعة الإخوان المسلمين مرتكز حديثها منذ تأسيسها على أنها منطلقة من حيث انتهت السلطنة التركية التي نسبت نفسها إلى (الخلافة)، وجعلوا الحياة الإسلامية تنتهي بانتهاء الدولة التركية القديمة، فدعوا إلى استئناف الحياة الإسلامية وقصدوا بهذا إرجاع الخلافة إلى الحكم، لاعتقادهم أنَّ الدين يتمحور حول وصولهم إلى السلطة، ثم ما أن جاءت قضية فلسطين، حتى أخرجوا للناس ما قاله السلطان عبدالحميد الثاني، بأنه يعتبر فلسطين أرضًا تابعة له ولأجداده، وأنه لا يمكن أن يتنازل عنها في حياته لصالح إقامة وطن قومي لليهود، كان هذا في إطار سعي الإخوان لتمجيد حكم الأتراك، وأخفوا في سبيل هذا التمجيد حقيقة السلطان المذكور بأنّه كرّم هرتزل زعيم الصهيونية، وفي عهده نشط الاستيطان اليهودي لفلسطين، وأنه حتى في رفضه الرسمي، كان يعتبر فلسطين تابعة للأتراك في المقام الأول. ثم انطلقت تركيا الحديثة في محاولاتها جاهدة لأن تصبح دولة على الطراز الأوروبي، في مختلف المجالات، فهي دولة علمانية، وسياستها قومية في أوضح ما يكون، حتى اصطدمت بالرفض المتكرر بأن تكون عضوًا في الاتحاد الأوروبي، حينها فقط تذكّرت صلتها بالشرق، فكان توجهها إلى الشرق مرهونًا بالرفض الأوروبي، لا نابعًا من قناعاتها وحاجاتها الذاتية، وفي سبيل الاتجاه إلى الشرق سعت إلى احتواء أكبر قدر ممكن من العناصر التي يمكن أن تؤثر في زيادة نفوذها فيه، من السماح بالحجاب، حتى مشاركتها بتسهيل دخول المقاتلين إلى سوريا بعد (2011)، ودخول قواتها إلى الشمال السوري، ودعم الفصائل السورية المعارضة، مرورًا بإيواء مصريين من جماعة الإخوان المطلوبين في بلدهم، وصارت قضية فلسطين حاضرة في الخطابات الرسمية، فهي بوابة أخرى للدعاية، رغم أنَّ علاقة تركيا بإسرائيل قديمة، وتصاعدتْ مع الزمن، في مختلف المجالات، الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، وغيرها. وقد استنكرت تركيا الهجوم الذي حدث في 7 أكتوبر، وكانت أدواتها من جماعة الإخوان قد فهمت الخط المرسوم لهم، بأن يجعلوا هجومهم الدعائي منحصرًا في الدول العربية فقط، مهما حدث من تنسيق بين تركيا وإسرائيل، والذي كان آخره اتفاق الغاز، حتى أعلنت تركيا مع الحرب الأخيرة، أنها مستعدة لأن تكون دولة ضامنة، وهو ما يدفع إلى عدة أسئلة على المدى البعيد عن احتمال عرض تركيا نفسها للمساعدة في إدارة القطاع في غزة في سيناريو ما بعد الحرب، أملًا منها بالاقتراب من الغاز الموجود في غزة، الذي أعاقت الأوضاع السياسية المعقّدة الإفادة منه، والتجربة التركية حافلة بسياسة الشقوق، أي الاستفادة من الأزمات، كما حدث في شمال سوريا حين وصلت إلى حد تحويل عملة الشمال إلى العملة التركية، فما الذي تنويه تركيا في غزة وسياستها في كثير منها تتلخص بالوصول إلى منابع الطاقة التي تحتاجها. لقد أرادت توسيع نفوذها في المنطقة، فسعت إلى إنشاء ذراع ديني تابع لها، وركّزت على البعثات إليها من مختلف الدول، والهدف الأساسي: المنطقة العربية، ومختلف الجمهوريات السوفيتية السابقة، وأنفقت الكثير للاستثمار في هذا المجال، فالشؤون الدينية التركية تنفق بما يزيد عن ميزانية 70 جامعة تركية، وقد حظيت بميزانية تقارب 100 مليار ليرة تركية سنويًا، وتحت بند السلع والخدمات أنفقوا مليارًا و194 مليون ليرة، وهو ما يظهر الحرص الكبير وحاجة تركيا إلى بناء دعاية دينية تخدم بها أهدافها السياسية. ولا شك أنَّ السوريين الذين تحتضنهم تركيا قد شكّلوا مادّة أساسية للإعداد في هذا التوجه، فتم توزيع الكثير منهم على عدة جامعات، ويستقبلون عددًا من الجنسيات العربية الأخرى بالتحالف مع جماعة الإخوان، وفق نظام التزكية فيما بينهم، وبهذا توزعت الفائدة على الطرفين، من جهة تركيا تعدّ تيارًا دينيًا مواليًا لها ولسياستها على المدى البعيد، ومن جهة الإخوان يضمنون منطقة آمنة لنشاطهم، ودخلًا اقتصاديًا لهم يزداد مع زيادة المنخرطين في هذا الجانب. هذا التوجه المعلن الذي تعدّه تركيا وقد جربته لحيازة نفط ليبيا، حين كان التابعون لجماعة الإخوان يفتون بوجوب إعطائها النفط، في الوقت الذي يفتون فيه بحرمة الحج للمرة الثانية في السعودية، لخصومتهم السياسية معها، أمام هذا لا بد من إعداد مراكز استراتيجية لبحث طرق التعامل معه، يقوم عليه خبراء مختصون، يشمل البحث فيه لتشخيصه اقتراح طرق التعامل معه، كالبحث في استثمار المنح الجامعية في الدول العربية، وجدواها على المدى البعيد للوقوف في وجه هذا المدّ الذي تنفق عليه تركيا ملياراتها.