الرجل القادر على تغيير رأي العالم، هي السمة التي عرف بها عميد الدبلوماسية الأمير سعود الفيصل، والتي اكتسبها من سجل تاريخي مشرف سطّره بمواقفه الدبلوماسية خلال أربعين عامًا، شغل بها منصبه السياسي تزامنًا مع أكثر الأحداث اضطرابًا وأشدّها تعقيدًا على المستوى الإقليمي والدولي وعلى الصعد كافة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي شغلت حيزًا واسعًا من اهتمامه، حيث اعتبرها قضية العرب الأولى ولا يمكن لهم الشعور بالفرح والسرور والشعب الفلسطيني يعاني تحت الاحتلال وفي المهاجر، كما أنّ رؤيته للقضايا العربية كانت تنطلق دائمًا من زاوية نظر يراعي بها حساسية الموقف الفلسطيني ودوره المحوري في الشؤون العربية، لا سيما في مرحلة الحرب الأهلية في لبنان، فقد أثمرت جهوده السياسية في حلّ الأزمات التي كانت تعانيها المنطقة العربية عمومًا ولبنان على وجه الخصوص، وذلك مع تمسكه في كل مبادرة أو حوار دبلوماسي بأولوية القضية الفلسطينية وعدم التنازل عن حق شعبها بأرضه، وحين نزفت علاقات الأخوة على الأرض اللبنانية، استطاع أن يلم شتات الروابط بينهم ودعم الصلح على طاولة الوفاق التي لم يحد عن السعي لإرسائها خلال سنوات من الصراعات الداخلية في لبنان والاضطرابات التي أحاطت به، كان سفيرًا للشعب الفلسطيني في المحافل الدولية، وقد حمل حلم أبيه بالصلاة بالمسجد الأقصى ولو ركعة واحدة، وجسّده بإصراره على حرية فلسطين، إذ رفض أي حل لا يؤدي إلى تحرير القدس الشريف واعتبره حلًا غير مقبول. تميّز الأمير سعود الفيصل بحضور لافت ولغة دبلوماسية أنيقة حافظ بها على الحنكة والذكاء السياسي، فضلًا عن العبارات المسالمة والتوجهات الصارمة، فاستطاع أن يوازن بين الحزم والرفق بحكمة منقطعة النظير، وذلك من خلال سعيه الدائم لإيجاد حلول سلمية وطرح مبادرات الوفاق بعيدًا عن لغة العنف والصراع، ولعلّ القارئ لتاريخ المملكة العربية السعودية ومواقفها من القضايا العربية والعالمية، والتي تجسدت عبر تصريحات وزير خارجيتها وقائد دفة دبلوماسيتها الأمير سعود الفيصل، سيلحظ ذلك الوجه السياسي المسالم القوي في آن واحد، وسيقرأ ملامح الحنكة جليةً في رؤى الأمير ومواقفه وتطلعاته نحو مستقبل عربي آمن، حيث كان يتعامل مع المنصب على أنّه مسؤولية، ومع الشؤون المحلية على أنّها أمانة، ومع القضايا العربية على أنها جزء لا ينفصل عن أمن المملكة واستقرارها، إذ كان يتكفل بحمل أعباء العرب وينطق بلسان حالهم، موازنًا بين رغبات الشعوب وحقوقها، وبين سيادة الدول واستقلالها، واحترام الرموز والقادة ومكانتهم السياسية، ولعلّ أبرز ما يتمثل به ذلك ما أدلى به الأمير في أكثر الفترات العربية اضطرابًا، الثورات العربية، والتي أطلق عليها (الربيع العربي)، ففي موقف المملكة حيال القضيتين التونسية والمصرية احترام لواجب العرب باستقبال من حلّ أرضها ضيفًا، وذلك بترحيبها بالرئيس التونسي الذي اختار أرض المملكة وجهةً له ولأسرته عقب اندلاع الثورة في تونس، وكذلك هو الحال في موقفها من الرئيس حسني مبارك، حيث حملت المملكة عصا النزاع بين الشعوب ورؤسائها من المنتصف بذكاء، استطاعت به أن تفصل بين إحقاق الحق وتأييد الشعوب في مطالبها، وبين احترام الرموز السياسية ومكانتهم وأداء الواجب نحوهم، وتجلّى حسن تعاملها مع تلك الاحتجاجات وما رافقها من اضطراب عام في المنطقة العربية، من خلال خطاب وجهه الأمير سعود الفيصل للشعب التونسي، مطمئنًا إياه أنّ بلاده ستبقى داعمة لخيارات الشعب التونسي، وأن استقبال الرئيس المخلوع هو استضافة لمستجير بها، وكذلك هو الحال بالنسبة للرئيس المصري الذي اتجه للسعودية أيضًا في ظل اندلاع الاحتجاجات في بلاده، ويسجل هذا الموقف النبيل صفحة مرموقة في سجلات تاريخ مواقف المملكة المشرفة، إذ استطاعت أن تنحي جانبًا المصالح والاعتبارات السياسية، وتتصرف بالهدوء الذي صار سمة للوجه الدبلوماسي السعودي، والذي رافقه دعم مالي ومساندة سياسية لم تتردد المملكة عن صبّها في صالح الشعب المصري خلال سنوات أزمته. «نحن السعوديين لا ننكث الوعد ولا نرتضي الوعيد»، تلك المقولة التي أدلى بها الأمير سعود الفيصل قولًا، وترجمها فعلًا في كلّ مفصل سياسي كان يعترض سبيل الواقع العربي عمومًا، والسعودي على وجه الخصوص، وبين الحزم في الموقف واللين في الرؤى، والإنسانية في المبادرات، خطّ الأمير إرثًا سياسيًا عريقًا، حافلاً بالجهود المشرفة والإنجازات التي لم يحظّ بها سجل سياسي على مدى أربعة عقود من النشاط الدبلوماسي، وفي حين كانت الأزمات الصحية توهي من عزم جسده، لم تستطع أن تضعف عزم موقفه، فمازح أعضاء مجلس الشورى في إحدى الجلسات معتذرًا منهم قائلًا: «إنّ حالتي الصحية أشبه بحال الأمة العربية»، تلك الأمة التي دأب على حمل رايتها عاليًا، واحتضان آلامها وتضميد جراحها، وكانت ملازمة له، هاجسًا لا يفارقه، حتى حين أصابه الوهن، لم يتحسس به ضعفًا يصيب جسده، بل تداعيًا بالأمة العربية سرى إلى جسده وآلمه بألمها، واليوم في ذكرى رحيله، يتجدّد هذا الألم في نفوس كلّ من عرف الأمير الأنيق، والخسارة التي أصابت الأمة العربية برحيله.