"من الأفضل أن يراني الناس في سيارتي التي أملكها، وأستطيع التصرف بها كيفما أشاء، وليس في سيارة الدولة التي لا أملكها، وليس لي الحق في التصرف بها على أي حال من الأحوال".. هذا ما كان يقوله المؤرخ علي بن صالح السلوك الذي رحل عن الدنيا قبل أيام، لتبرير موقفه الرافض لاستلامه سيارة رسمية لدى عمله مسؤولا في محافظة المندق التابعة لإمارة الباحة. وأضاف محافظ المندق السابق عبدالعزيز بن رقوش في حديثه عن الراحل، على إثر زمالة العمل التي ربطت بينهما في المحافظة سابقا، أنه مدرسة إدارية، ومرجع ثقافي ولغوي "كونه عاش شغوفاً بتدقيق العبارات واختيار المفردات"، مشيرا إلى أنه كان رجلا لا يجامل أبداً "بل كان يتبنى مواقفه عن قناعة مدروسة ويدافع عنها حتى آخر رمق". جاء ذلك خلال أمسية تأبين المؤرخ الراحل علي السلوك، بالقاعة الثقافية لفرع فنون الباحة أول من أمس، وأدارها غرم الله الصقاعي. وفي استعراض ابن قريته الكاتب عبدالعزيز جُبران مسيرة الراحل في العمل الاجتماعي، كونه أسس أول جمعية تعاونية عام 1388، وتبنى خلالها خدمة قريته بإيصال التيار الكهربائي، وأعقبها بافتتاح أول جمعية خيرية في المنطقة عام 1392، استعاد جبران موقفين عايشهما مع الراحل، الأول حين تلقى دعماً سخياً قبل ما يزيد عن ثلاثة عقود بمبلغ 250 ريالا بشيك مصدّق صادر باسمه، فما كان منه إلا جمع مجلس إدارة الجمعية وأشعرهم بوصول المبلغ وإيداعه مباشرة في حساب الجمعية، والثاني في شكاوى كيدية رُفعت ضده لوزارة الشؤون الاجتماعية فطُلبَ منه الاستقالة من رئاسة مجلس جمعية قرن ظبي الخيرية، فاستجاب لذلك الطلب، لكنه بعث برقية جريئة مطالباً الجهات المختصة بالتحري عنه ومتابعة حساباته البنكية قبل قبول الشكاوى المقدمة ضده، وبعد أشهر من التحري عن حسابات الراحل، أصدرت وزارة الداخلية شهادة براءة ذمة علّقها السلوك في مجلسه، كانت أثمن ما تحصّل عليه رداً على المشككين في نزاهته. وأضاف جبران أنه حين حاول البعض إطلاع الراحل على أسماء أصحاب الشكوى الكيدية ضده، ردّ بعدم الرغبة في معرفتهم قائلا "إنه متيقن أنهم من أولئك الذين قد أحسن إليهم يوماً ما". من جانبه بنى الناقد الدكتور معجب الزهراني مداخلته على القيمة المعرفية للمرء بما يتركه من إنجاز وعمل يظل حيوياً وقابلاً للنمو، مطالباً الباحثين من أبناء المنطقة بمواصلة العمل على موسوعة علي السلوك بما فيها من ثراء شفاهي مغذ للحياة، مبدياً دهشته من باحثين "قدّم لهم السلوك معلومات وأسهم معهم في مشاريعهم البحثية فلم يذكروه ولم يشكروه"، مؤكداً أننا "أضعف الشعوب في الوعي بالرمزية وإتقان الترميز". من جهته، تحدث الدكتور علي الرباعي عن خصائص مشروع السلوك في حُسن انتمائه للمكان وإنسانه، وإتقانه الارتباط بالأرض كونها ذاكرة الإنسان قائلاً "لقد أعطانا الراحل معنى للمكان وللزمان"، مضيفاً أن السلوك تحول من فرد إلى مؤسسة بوضعه استراتيجية متقنة لمشروعه. وقال إنه بما يمتلك من الشجاعة الأدبية والوعي وسعة الاطلاع، نجح في تحويل نص شفاهي مليء بالحمولات إلى وثيقة مدونة تحولت إلى نص. وأكد الرباعي أن الراحل انطلق بدافع معرفي بحت دون تطلع لجوائز أو ترقية وظيفية، مضيفاً أن جيل الشباب سيعود يوماً لجذوره لأن الشعوب المتحضرة لم تؤسس مدنيتها على القطيعة مع تراثها ولم تهمل أصولها، مشيراً إلى أن بعض الرواة الشفهيين يقطعون بأن موسوعة السلوك احتوت على نصوص شعرية نسائية نسبت لأسماء رجال مستعارة، لاعتبارات تتعلق بحالة الذهنية الاجتماعية ونظرتها. وتناول أستاذ اللسانيات في جامعة الباحة الدكتور جمعان بن عبدالكريم, دور المؤرخ الراحل في حفظ ذاكرة المنطقة من خلال المعجم الجغرافي لبلاد غامد وزهران، والموسوعة الشفاهية للأدب الشعبي، موضحاً أن إنجاز المعجم الجغرافي كان بإيعاز من العلامة حمد الجاسر، قائلاً إن "السلوك حضر في المشهد الثقافي بالوعي الذي يتجاوز حقبته". أما أستاذ الأدب في جامعة الباحة الدكتور محمد أبو الفتوح فقد قارن بين عمل السلوك في موسوعته وبين عمل الباحثين العرب، خصوصاً حين يعيد الأمثال والحكم إلى أصولها، ويربطها بما يُشاكلها في اللهجات العربية. فيما لم يزد ابن الراحل المهندس العقيد زهران علي السلوك في مداخلته عن فخره بأبيه قائلاً "عاش والدي متأملا أن يكون تكريمه هذا، في حياته"، مثمناً لوالدته وفاءها وإخلاصها لأبيه، ومقدماً شكره لفرع "فنون الباحة" وللمقهى الثقافي والقائمين عليه والمشاركين في الأمسية. إلى ذلك، تبنى المقهى الثقافي في فرع جمعية الثقافة والفنون في منطقة الباحة إطلاق اسم الراحل علي بن صالح السلوك على مكتبة الأدب الشفاهي، وطباعة ما يجد من أعماله بعد أخذ موافقة ورثته خصوصاً ما يتعلق بالأدب الشفهي النسوي، جاء ذلك على لسان مدير الفرع علي بن خميس البيضاني.