الكتابةُ عند موريس بلانشو فاجعةٌ، بعد أن فقدت مؤلفَها، ولم تتقيّد بزمانٍ ولا مكانٍ ومن ثمَّ كانت صورة المؤلف والقارئ صدى لهذه الفاجعة. وأنا أطرح هنا مقولة: (المشافهة فاجعة)؛ وتخيّرتُ لفظَ المشافهة، للدلالة على المفاعلةِ بين صوتين. وأعني الصوتَ بوصفه نقيض الكتابة. ومرادي من هذا الطرح أن أستعيدَ ما أنتجَه الفكر العربي من فواجع، -وهو يتذكر مرحلةَ الانتصار التاريخي للإسلام- في مساراتٍ كارثيّةٍ كالقاعدةِ وتوابعها، ثم داعش وأخواتها، إلى آخر الفواجع التي تتوالد. ولكنّي أستعيدها من خلال سؤال: هل يُمكن معالجة هذه الفواجع بالمشافهة الحوارية؟ السؤال في ظاهِره غريب؛ لكنَّ إنتاجَ تلك الفواجع ينتمي للإيمان بأنَّ الكتابة ما هي إلا صورة عن الكلام، ومن ثم هم يؤمنون بأنَّ هذه الحوارات متفرعة عن الانتصار الصوتي الأول للحضارة الإسلامية؛ ألا تراهم يرددون دائمًا: ما فائدة الكتابة؟ ما جدوى التفلسف في ظلِّ صوتٍ خافت؟ لا صوت يعلو على صوت الحق، إلخ من الاعتقادات. ويمكن في ظل هذه الرؤية أن يُدرس كتابُ عبدالله القصيمي (العرب ظاهرة صوتية)، مع استحضار سؤال: هل الانتصار ظاهرة صوتية؟ وحينها ربما نُدخل القصيمي في المشكلة نفسها. في حوارٍ ثقافيٍّ يسأل المضيفُ ضيفَه: هل يُمكِن أن نَفهمَ كيف للمنبعِ نفسِه أن يُؤسِسَ لحضارةٍ متنوعة حية، وحضارةِ قتلٍ في الشرق الميّت؟!. فيجيبه الضيفُ: «إنَّها معادلة: إمَّا السعي للانتصار بعد فواتِ الأوان، أو التفكير بأفْقِ ما بعد الانتصار في لحظةٍ تاريخيةٍ مناسبة». هذه الإجابة متفرعة عن مصيدةِ السؤال الذي افترض منبعًا واحدًا، ونتيجتين متناقضتين، وفي الآنِ نفسه يُصِرّ الضيفُ على لفظ (لحظة تاريخيّةٍ مناسبة) دون أن يشرحَ معنى الانتصار، وكأنَّه مفهوم للجميع بصورةٍ قطعيةٍ، ومرضيّة. المشافهة ورطة، هذا أفضل وصفٍ لها؛ لأنّها معقودة بمعنى محصور، ومحدد، ألا نتذكر هنا مقولةَ الفقهاء العرب: «من كان شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه»؟. أما أنا فأتذكرها في هذا السياق، وأعقدُ بينها وبين المشافهة صلةً وطيدة. أستعيدُ -هنا- الأنفاسَ الأخيرةَ للفيلسوفِ الفرنسي، جاك دريدا، ذلك التفكيكي الذي ذكر في آخرِ حوارٍ له قبل وفاته بشهورٍ قليلة: «لنتحالف مع أولئك الذين يقاومون في الداخل هاتين الكتلتين». وعنى بالكتلتين: (الهيمنة الأمريكية والثيوقراطية العربية الإسلامية التي بلا أنوار). استحضرتُ دريدا؛ لأنه مؤسس لعلم الكتابة، ومفكِّك لمركزية الصوت، فتأتي مشافهته لتجعلنا حذرين من تمركزٍ صوتي أخير لدريدا، وذلك حين ذكرَ لفظةَ (الداخل)، والداخل هنا أوروبي. فيستدعي هذا اللفظ (عصر العقلانية والأنوار)، لهذا احترزَ بتمييز الكتلة العربية بأنها بلا أنوار. وهذا لا بد أن يُعيدنا إلى مشكلةِ دريدا مع تاريخِ الحداثةِ الغربية التي سعى لتفكيك مركزيتها. لكن بحسب موضوعي هنا وهو كون المشافهة فاجعة؛ فإني سأبيّن خلاصَ دريدا من مشكلاتٍ كثيرة، تجلبها المشافهة عليه؛ إذ هو يشعرُ -دائمًا- بأنَّ حوارَه فاجعة، وهو حين يشترط (الأنوار) للكتلة العربية؛ كي لا يُتحالَف ضدها؛ فإنه سيتذكّر المأزق الذي سيقع فيه من جراء الحضور الموشوم للإرث التاريخي الغربي الضخم. أو يتذكر تمركز الأنا المتّسخة بتاريخِ التاريخِ الهيجلي. إنَّ دريدا يشعر بالورطة فعلًا، ويذكرها نصًّا، وكأنَّه يشير إلى كتابةِ الفاجعة، بالتعبير الشفهي. ويُداريها دائمًا بصنعِ التناقض الواعي، فدريدا يقول الشيءَ ونقيضَه، دون أن يرى نفسه متناقضًا؛ لأنه لا يفعل شيئًا سوى فضح تناقضات الوجود ذاته. ومن هنا فإنَّ دريدا -بالكتابة- لا ينفي المعنى، ولكنَّه يريد أن يُزيحه من سلطةٍ مهيمنة ويجعله دلالاتٍ مُوزّعة على الهوامش. لكنَّ المشافهة -هنا- تُربِك إرادته، وتحطم بعضًا من الإستراتيجية التفكيكية. وربما نستأنس هنا بحديثه الذي شعر بخطورته الشفهيّة: «أقول -مع ما فيه من خطورة- إنَّ الإنسانية تتمثَّل في التوراةِ واليونان. أما ما هو خارجها فهو مجرد عبث». إنَّه يتقلَّد تاريخَ هيجل، القائل: «سبقَ أن حذفنا بالفعلِ من أجزاءِ آسيا المتعددة آسيا العليا بوصفها تقع خارج التاريخ، طالما أن شعبها البدوي لم يظهر على مسرح التاريخ، وكذلك حذفنا سيبيريا...». هنا ندرك أن دريدا حين يُحاوِر فإنه يتمركز حول ما هو غربي في الفكر والوعي والتاريخ. لهذا هو يراوغ محاوره باستمرار وكأنه يقول: هذه الحوارات ورطة لا بد منها؛ فالهوية الغربية يُعبّر عنها -في سياق يهوديته- بتناقضٍ ذكيٍّ؛ يحيل الأشكالَ إلى مشكلة الحضور المتجسّد قائلًا: «وقد تكون الصفة اليهودية في فكري ما يقوله أرسطو بعمقٍ عن الصلاةِ، إنَّها ليست صحيحة ولا زائفة. وهي من جهةٍ أخرى صلاة بالتمام. فلن أتردَّد إذن في وضعياتٍ مُعيّنة في قول: نحن اليهود، وكذلك نحن الفرنسيون». لهذا فإن جملةَ دريدا حول التحالف لا بد أن تتطور -بحسب وضعيةٍ أخرى- لتكون: (لنتحالف مع أولئك الذين يقاومون الكتلَ المهيمنة أيًا كان فضاؤها، ومكانها، فهي طريقٌ لتراكم رصيد الاغتراب) مع استحضار قول دريدا: «إن الحديث مع الآخر بلغته هو شرطٌ لكلِ عدالةٍ ممكنة». التفاتة: انتقد جاك دريدا الصيغةَ الفينومينولوجية عند هوسرل؛ لأنها لم تنقد فعلَ الميتافيزيقا إلا لإنقاذها. فهوسرل يرى أنَّ البنى المعيشية -بعد وضعها بين قوسين- تسبق اللغةَ التي تتلبّس بها، ومن ثمّ لا تصبح حينها اللغة إلا غلافًا للتفكير، إلا صوتًا يُجسّد الحضور. لهذا كان هوسرل مليئًا بالافتراضات الميتافيزيقية المسبقة، التي جعلت من ظاهرياته مُعيدَة لليقينيات الكبرى حول الوجود والنفس، والقول والمعنى، بل حولَ الضامن لكلِّ شيء. التفاتة عن الالتفاتة: يقول أنطونيو كاسترونوفو في وصفِ الإنسان المعاصر: «كان يحب البشرية، لكنّه لم يكُن يُطيِق جارَه».