ها هو المسرح قد أعد بأناة وتبصر بالغين تمهيدا للدخول العظيم: الإنسان سيد العالم، يأتي ليقف حرا، الحر الوحيد في هذا الكون الواسع، خالقاً للأفعال، مسؤولا، تتفجر طاقاته الكامنة بالقوة المكتسبة التي أضفاها عليه وعيه. ومن هذا الوعي سوف ينطلق إلى التحكم بالحياة، إلى إخضاع مسار العملية الاجتماعية للعقل. إن نظرية النظام في (الكون) تتجسد بأروع صورها: الإنسان يتحرك بالإنجازات المأمولة أكثر مما يستجيب لمعطيات عصره. إنه يخترق كل الكيانات الطبقية الثابتة، المواضعات المحنطة، التي يكبل نفسه بها ليمتلك حريته كاملة، ليفتح الطريق لمجيء مجتمع جديد، يكون فيه هو سيده: المجتمع الصناعي. ان إذلاله بالعمل اليدوي قد شارف على النهاية، وفي الأفق القريب تتحدد ملامح الحياة التي تقوم فيها الآلة مقام الجهد العضلي وتفسح للإنسان المجال لأن يعمل العمل الوحيد الذي يتفق معه: العمل العقلي والاستمتاع بالحياة. إن لوحات عصر النهضة التي يستولي فيها الجسد الإنساني المليء بالشبق وحب الحياة وبخصب المعاناة والتوتر على معظم مساحة اللوحة، دافعاً الموجودات الأخرى إلى الوراء، والتي أستعيد فيها المنظور ليبدو الجسد الإنساني بكل أبعاده، وبإرهاصه بالحركة. هذا المنظور الذي انعدم في عهد السيطرة الكنسية، حيث كان الإنسان ذا بعدين وحسب، صورة شبحية، محاطة بهالة قاتمة تختنق داخلها تعبيرات الوجه... إن أفكار فلاسفة عصر التنوير المؤكدة لقيمة الوعي والمعرفة - والتي كانت تعتبر أن تقدم الإنسانية هو تطور العقل في التاريخ. إن التعبير الرومانسي عن الفرح بالحياة، كل ذلك وغيره قد لقي تجسيداً مبكراً وشجاعاً في المذهب المتماسك الذي وضعه إبراهيم بن سيار النظام. وإذا كان حلم الإنسان في حياة جديدة - في مجتمع صناعي قد وجد تعبيراً رصيناً في فكر النظام، فهو قد اتخذ في الحكايات الشعبية طابعاً معربداً، جامحاً، لم يستطع الإرهاب والبطش أن يسلس قياده. فشاع الأدب - أو على الأقل بدأت إرهاصاته الأولى - الذي يحكي عن أولئك الرجال الجسورين الذين شقوا طريقهم في الحياة بذكائهم وبراعتهم، وعن تلك الأبسطة السحرية التي يمتطيها الإنسان ويوجهها حيث يشاء، وعن تلك الطيور المهولة التي تنتزع الإنسان من بؤس الفقر إلى قصور مليئة بطيبات النساء ومتعها، وعن ذلك المارد الذي كان يستطيع أن يسحق مدينة بأكملها، ولكنه يأتي إليك بمجرد أن تفرك خاتمك ليقف مطيعاً، رقيقاً، مهذباً وينحني لك ويقول بصوت خاشع: - «شبيك لبيك، عبدك بين يديك». رافق ذلك حركة تشكيلية نشطة، اقتحمت طريقها وسط استنكار قوي. إن تصوير الجسد الإنساني كان خطوة هامة في وعي الإنسان لذاته، من حيث دلالته على هذا الوعي، ومن حيث الأثر الذي يحدثه هذا التصوير. وتواكبت مع هذا قيام انتفاضات شعبية واسعة ومنظمة ذات فكر متقدم، طرحت قضايا الإنسان في المجتمع بشكل جذري، متجاوزة في هذا الطرح كل معطيات الواقع الراكد. لقد نادت بالمساواة بين المرأة والرجل. ومن الأمور التي تستحق الاهتمام أن البرنامج التثقيفي لهذه الحركات كان موسوعة فلسفية تحتوي على إنجازات العقل الإنساني في جميع الحقول، والواقع أنني أذكر هذه الحقائق حتى نرى الأهمية البالغة الدلالة لصياغة النظام فكرة حرية الإنسان بسبب كونه يملك جسداً. فهو يرى أن الكائن الوحيد في الكون الذي يملك حرية الاختيار هو الإنسان لأنه يملك جسداً. فيقول: إن سبيل كون الروح في هذا البدن على جهة أن البدن آفة عليه وباعث له على الاختيار، ولو خلص منه لكانت أفعاله على التولد والاضطرار». أي أن كل ما عدا الإنسان يسير وفقاً لقوانين الحتمية التي لا يستطيع منها فكاكاً، لأنه لا خيار له إلا أن يفعل ما فعل. أما العالم المادي فهو يسير حسب إيجاب الخلقة، أي حسب قوانين الحركة الموضوعة فيه. فلا يبقى حر سوى الإنسان. إن التأكيد على الإنسان كجسد هو تعبير عن بداية إحساس الإنسان بنفسه كفرد متمايز عن مطلقات الجماعة - القبيلة - البلدة - الطبقة الخ... قادر على أن يشرع لذاته، وأن يكون في موقف البطولة الفردية القادرة على أن تحرك العالم، وأن يحس بجسده من خلال استغراق حسي في اللحظة المعاشة. وسوف نفصل هذه المعطيات الثلاثة لنشوء الفرد المستقل. ولكن قبل أن نفعل ذلك أود أن أشير إلى أنه من حيث الخطوط العامة، فإن هذه المعطيات تتشابه في خطوطها العريضة مع النظرة للإنسان كفرد في مرحلة نشوء البرجوازية الأوروبية. الإنسان كمشرع لذاته: سوف أورد هنا ما قلته في مقال لي عن «حلم المدينة الفاضلة في الفكر الإسلامي» حول هذا الموضوع: العقل هو أسمى «وسائل للحكم على الأشياء، وللتوصل إلى المعرفة. وهنالك نص بالغ الدلالة في كتاب (كليلة ودمنة) ونعني به (باب برزويه). ففكرت في ذلك. فلما خفت من التردد والتحول، رأيت ألا أتعرض لما أتخوف منه المكروه، وأن أقتصر على عمل تشهد النفس أنه يوافق...». وفي قصة (المصدق المخدوع) في (كليلة ودمنة) يدعو ابن المقفع بحرارة إلى الكف عن (الإيمان بما لا تعرف والتصديق بما لا تعقل). يبدو هنا جلياً دينامية المجتمع التجاري، الذي كان في طريقه إلى الصناعة، في تنظيم المجتمع على أسس عقلانية تنطلق من كون الإنسان مشرعاً لذاته، يحدد مصيره اختياره الحر، المبني على تحكيم العقل. التعبير البطولي: لقد عبر الشعر في هذه المرحلة عن شخصية بطولية لها ملمحان رئيسيان: تدمج الشجاعة الأول: البطل الشامل، ذاك الذي يجمع بين صفات إيجابية متعددة، والأقدام بالتعمق في المعرفة، والجسارة بالإمساك بدروب العالم.... ذاك الذي يحرك العالم بكفاءاته ووعيه. نستطيع أن نعطي أمثلة كثيرة على ذلك من أبي تمام والمتنبي. يقول أبو تمام: سيبتعث الركاب وراكبيها فتي کالسيف هجعته غرار أطل على كل الأفاق حتى كأن الأرض في عينيه دار. 1977* * كاتب وصحافي أردني «1932-1989»