جاء في لسان العرب أنَّ العتبة هي «أسكفة الباب التي تُوطأ»، أي أنَّ العتبةَ هي الموصلة إلى الدار، لكن عند نقلها من المادة إلى منتجات الوعي؛ هل ستظل أهميتها كموقعٍ إستراتيجي؟ أي هل يستقيم لنا الأمر حين نقول إنَّ النصّ لا يمكن الدخول إليه إلا بوطء عنوانه مثلا؟ للمعري ديوان (سقط الزند)، كان هذا العنوان مدخلا لبعض الشُرّاح في تحديد زمن الديوان، باعتباره أول شِعر المعري؛ لأن السقط أول ما يخرج من النار عند القدح. إلا أنهم ووجِهوا بأبياتٍ فيها إرهاصات الكهولة ك«وعيشتي الشباب وليس منها/ صباي، ولا ذوائبي الهجان»، فيكون العنوان سببا لهذا الخلاف؛ ومن ثم فهو إشارة إلى أنَّ المتن نارٌ- والنار من مستصغر الشرر- أي أنَّ العنوان هو ما تقدح به النار. فيكون المعري -هنا- مبتكرًا للعنوان، كإستراتيجية لإشراك القارئ، وتحفيزه على الحوار مع النص؛ إذ يبدو أن العناوين- في التراث العربي -قبل المعري منفصلة عن عضوية المتن، لم تكن إلا أسامٍ، لا حقيقة موضوعية لها. فيأتي السؤال: هل يمكن قراءة متن السقط دون عتبة العنوان؟ يقول التبريزي: «كان يُغَيّر الكلمة منه بعد الكلمة -أي من سقط الزند- إذا قُرِئَت عليه، ويقول -معتذرا- مدحتُ نفسي فيه فأنا أكره سماعه»، والمراد أنَّ قصائد الديوان قامت على ثلاثية: 1.الثناء بوجهيْه: المدح والرثاء 2. الهجاء 3. الفخر، وأسميت سقط الزند، وهذا ما يجعل للسقط معنى مختلفًا عمَّا يسقط من النار عند القدح، وهو سقوط زند اليد عن الإشارة أو الإحالة إلى الحقيقة، وهذه الثلاثية التي عبأ بها المعريُّ سَقْطه علامةً من علامات الامتلاء بالحقيقة؛ فلم تكن هذه الثلاثية -هنا- إلا رمزًا للحقيقة؛ لهذا نلحظ أنه يَعُدّ هذه الثلاثية، مدحًا لنفسه؛ أي يساويها بإيمانه بذاته. وقد ذكر المعريُّ في السقط بيتَه: «خفّف الوطءَ ما أظن أديم ال/أرضِ إلا من هذه الأجساد»، والوطء هنا يحيلنا على وطء الأرض/المتن، والتخفيف من وطئها؛ دعوة لتخفيف الإحالة اليقينية إلى الحقيقة، وكسر للحقيقة الفاصلة بين المتن والعتبات، على سبيل أنَّ الأجسادَ التي تَشَكَّل منها أديمُ الأرض، هي العتبات. وأشير -هنا- إلى ملمحٍ تأويلي في قول المعري: «وأنا مستطيع بغيري، فإذا غاب الكاتبُ فلا إملاء»، وهو أنَّ الكاتبَ لم يكن ذاك الذي يُملى عليه فحسب، بل كان الدليل على أوّلية الكتابة، وكأنَّ المؤلف -من الأصل- ولد ميّتا؛ ومن هنا نلمح وجهًا لقوله: «ولدي سرٌّ ليس يمكن ذكره/ يخفى على البصراء وهو نهار» وانتباه المعري -هنا- جاء من العملية التي كان يجريها في تلقي العلم؛ حيث وجود راوٍ فمستمع -بمصدر معرفي حادّ- فمتحدث، فكاتب. ثم ما يجري من تغيّرات على المضامين في رحلتها؛ لهذا خافَ من هذه الحقيقة المفجعة؛ حيث قال: «منذ فارقت العشرين من العمر، ما حدثتُ نفسي باجتداء علم من عراقي ولا شآم... والذي أقدمني تلك البلاد -يقصد العراق- مكان دار الكتب فيها»، أي كأنَّه أراد تقليل طول العملية التواصلية، تلك التي ستزيد من رُهاب المعنى، وتشظي الحقيقة؛ يقول: «ما سمعتُ شيئا إلا وحفظته، وما حفظت شيئا فنسيته»، لكن ذلك لا ينفي صدمةَ ما اكتشَفه، إلا أنه يخفف من الزهد بالبحث عن سر الأسرار -كما يراه-؛ إذ يذكر القفطي أنَّ المعريَ لما نزل اللاذقيةَ قابل راهبًا في دير الفاروس يشدو شيئا من علوم الأوائل -هكذا لَفْظ القفطي، وللفظةِ الأوائل معانٍ لها اتصال بسياق مفهوم الحقيقة بشكل من الأشكال- وكأنَّ دير الفاروس -هنا- هو دير بندكتس، الراهب الذي أسّس أول دير عام 529م، وهو العام الذي أغلق فيه جستنيان -الإمبراطور الروماني الذي غزا أثينا- الأكاديميةَ الفلسفية وباتحاد الحَدَثَيْن نكون أمامَ ديرٍ فلسفي، وتكون علوم الأوائل- كما ذكرها القفطي - هي هذا الاتحاد الذي جاء بإشكالية الإيمان والعقل، وإشكالية المفهوم الكلي؛ هل هو ذو مفهوم أنطولوجي أم أنه مجرد اسم؟ وهذه الإشكالية الثانية هي ما يعيدنا إلى تسمية العنوان وكيف حَوَّله المعري إلى أن يكونَ جُزءًا لا يتجزأ من المتن، ومن ثم النظر إلى نصوص المتن بصفته إشارة إلى سقوط الزند عن تحديد الحقيقة الموضوعية، وكأنَّ هذا الراهب الذي قابله المعري هو أول راوٍ وآخر راوٍ في الآنِ نفسه، وذلك من حيث إنَّ ما يقع على مسمع المعري -لاحقا- يخضع لتأويلِ الاستماع الأول؛ الذي هو ليس سردا معلوماتيّا بل علم الأوائل، بما لهذه اللفظة من إيقافٍ لسلسلة التواصل اللامتناهية؛ إذ يقول في اللزوميات: «ونحن في عالمٍ صيغت أوائله/ على الفساد، ففي قولنا فسدوا». ومن هنا نلمح وجهًا لكون كثير من قصائد سقط الزند هي أول شعر المعري؛ إذ لما كان المعرّي صبيّا في سنّ الخامسة عشرة، مات أبوه، فرثاه، ثم نَسَخَ هذا الرثاء بقول آخر هو: «هذا جناه أبي عليَّ/ وما جنيتُ على أحد»؛ وكأن مفهوم (الأب) هنا يشير إلى سلسلة التواصل الذي يجني فيه الكل على الكل بتلك المرويات -التي يُظَنّ أنها تنقل الحقيقة كما هي- مع أنَّها تتغيّر وهي تنتقلُ في السندِ الذي لا أصل له ثابت ومصدر، ومن هنا كان التناسل -عند المعري- هو الخطيئة الأصلية وبداية الشر؛ ورمزية التناسل -هنا- وُضِعَت للسند والعنعنة كَدَيْنٍ على المروي له بإيصال الحقيقة يقول المعري: «أوردني أبي موردا، لا بد أن أرده، ووالله لا أوردته أحدا بعدي». وأما عدم جنايته على أحد -مع كونه يروي-؛ فنلحظها في ابتكاره أسلوبًا يُغرب المعاني ويُعقّدها، وكأنه بهذا يضمن إما فقدان البنوة الصريحة لها، أو عدم فهمها إلا باعتبار المؤلف مَيّتًا في الأصل. ولم يجد مصدرا يحيل عليه هذه اللعبة اللغوية، إلا الدنيا حين قال: «خَسست يا أُمّنَا الدنيا فأفٍ لنا/ بنو الخسيسة أوباش أخساء» وهذه الإحالة المصدرية هي التي جعلت المتوهمين بإدراك الحقيقة الموضوعية يُزندقون المعري.