منذ أفلاطون وهناك محاولات لإثبات أن الإنسان بطبعه يعرف ولديه القدرة على معرفة أي شي بل إن المعرفة فطرية وهي في مكنون ذاته ولكنه لا يعلم عنها مباشرة ويحتاج إلى من يذكره بها فقط، وهذا ما حاول أفلاطون أن يظهره من خلال حوار مينو مع سقراط، ولكن مينو لم يصدق سقراط في إدعائه بأن المعرفة فطرية فطلب سقراط من مينو أن يحضر شخصا من الخدم لا يعرف شيئا عن الهندسة ولا عن الرياضيات وفعلا يحضر الخادم ويحاوره سقراط من خلال الأسئلة إلى أن يصل إلى أن الخادم فعلا يعرف عن نظرية فيثاغورس بأن زوايا المثلث 180 درجة. وفي قصة أخرى أكثر واقعية قصة عالم الفلك برسيفال لويل الذي يعود إليه فضل اكتشاف كوكب بلوتو في عام 1930. وكان يعتقد لويل اعتقادا راسخا أن هناك كوكبا تاسعا آخر وراء نبتون وأطلق عليه اسم كوكب إكس ولكنه لم يستطع فعلا العثور عليه حتى وفاته المفاجئة. قرر مديرو مرصد لويل استئناف البحث ووظفوا من أجل هذه الغاية شابا من كانساس يدعى كلايد تومبو. الشاهد في القصة أن تومبو هذا لم يتلق تدريبا رسميا بوصفه عالم فلك ولم يدرس علم الفلك أصلا ولكنه كان مجتهدا وذكيا وبعد بحث صبور اكتشف تومبو موقع بلوتو. ولدينا في الحاضر المعاصر تجربة فريدة وجميلة أسسها الناشط والمعلم بنكر روي ودعمتها الحكومة الهندية وتمثلت في كليات الحفاة للأميين وللفقراء والأرامل والأيتام حيث يتدربون على إنتاج وبناء وصيانة تقنيات وأنظمة مرتبطة بعلوم الهندسة وعلم طيران والتكييف والطاقة الشمسية والمياه والصرف الصحي وغيرها مع أنهم لا يقرؤون ولا يكتبون. ومعيار النجاح والرسوب هو المنتج النهائي وإتقان المهارة. وأن يصلوا إلى الهدف مباشرة دون الحاجة لاختبارات نظرية أو كتابات ورقية أو خوض في حسابات نظرية أو آراءٍ جدلية مستنزفة للعقل والوقت. السؤال: هل المعارف والمعلومات التي يتلقاها الطلاب اليوم في الكليات والجامعات زائدة عن الحاجة الفعلية التي نحتاجها لفهم العلوم؟ لقد قيل الزيادة كالنقص تماما والتعمق الزائد هو في الحقيقة تسطيح واضح وذلك لأنه لا يوصل للفهم والاستيعاب الحقيقي. وهذا ما ذكره آلان دونو في كتابه «نظام التفاهة» حين أشار بوضوح إلى أن كثرة التخصصات العلمية الدقيقة هي في الحقيقة نوع من أنواع التفاهة العلمية والأكاديمية فهل المطلوب أن نحفر في الأرض بحثا عن الجزئيات الصغيرة أم أن نحلق في فضاء العلم لنستمتع بجماله. يرى آلان أننا وصلنا الى درجة الحمولة القصوى والتي بعدها سنفقد عقولنا لا محالة. أسئلة البحث مثلا أصبحت صغيرة بل ومتناهية في الصغر في حين أن المراجع العلمية كالجبال العظيمة. إنه الجنون الحقيقي. لقد أصبحت البحوث المسماة «بالعلمية» بحوثا في المجهريات وتحذلقا ينصب على دراسة ومعالجة ما لا ينفع علمه ولا يضر جهله. كثير مما يطرح حاليا في المجلات العلمية هو من تفريعات العلوم التي لا تغني ولا تسمن من جوع وهو أشبه بالقصة المشهورة عن أحدهم أن ابنه ذهب للدارسة في بلد من بلاد أوروبا وعندما عاد سأل الوالد ولده وهما على الطعام وكانت بينها سمكة يأكلانها: ماذا درست يا بني؟ فقال لقد درست يا أبتي علما أستطيع به أن أشكك في هذه السمكة هل هي واحدة أم اثنتان! فقال الوالد: يا بني هذه إذن سمكتي، وشك أنت في الأخرى. فقلب عليه علمه الذي لا ينفع. أعتقد أننا وللأسف في عصر الغثاء والسمنة المفرطة. نفرح بزيادة أعداد أساتذة الجامعات ولكن الحقيقة أن معلمي الصفوف الأولية أكثر نفعا وفائدة للمجتمع والأجيال القادمة وأكثر تطبيقا لما لديهم من معارف ومعلومات ممن ينشرون أبحاثا لا ينتفع بها أحدٌ إلا من كتبها ليترقى «علميا» في مسماه وماديا في راتبه الشهري. الخلل حقيقة ليس في الأشخاص بل في النظام الأكاديمي الذي لم يُضبط بناؤه ومساره بالشكل الصحيح لضمان الإنتاجية النافعة للمجتمع والإنسانية. نظام الترقيات العلمية في الأكاديميات والجامعات يحتاج فعلاً إلى إعادة نظر وإصلاح حقيقي.