عرفت المجتمعات البشرية انتشار الشائعات كانحراف سلوكي منذ قديم الزمان، ولا تكاد تخلو أمة من الأمم أو مجتمع على وجه الأرض من وجود دوائر ظلامية، تسعى بشتى الطرق لمحاربة الحقيقة ومقاومتها عن طريق بث الشائعات، وترديد الأكاذيب، والسعي إلى ترويجها وسط العامة. وتتباين الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة وتختلف الدوافع التي تدفع البعض إلى ممارستها، فبينما يكون التكسب المادي أو تحقيق نوع من المصلحة هو السبب في بعض الأحيان، فإن هناك من يساعدون على تضخيم الأكاذيب وتهويلها وترويجها بين الناس بحسن نية أو دون انتباه، وهؤلاء هم الذين يستغلهم تجار الأوهام والمنتفعون الذين يتعمدون ترويج المعلومات الكاذبة وتمريرها لأولئك البسطاء الذين يبدءون من دون وعي في ترديدها ونشرها. ولخطورة الكلمة وعظم تأثيرها فقد اهتم الإسلام بالتحذير من خطورة الشائعات، ودعا إلى التنبه والتأكد من الكلمة قبل إطلاقها، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع، وفي هذا الحديث الكريم دعوة إلى التأكد والتثبت من المعلومات والكلمات قبل البوح بها. ما ساقني لهذه المقدمة هو تلك الإشاعات التي بدأ البعض بترويجها وتناقلها حول عملية التعداد السكاني والتي اكتملت الاستعدادات لانطلاقه خلال الفترة القليلة المقبلة، وما يتردد من أكاذيب بأن الغرض منه هو لإعادة النظر في استحقاق المستفيدين لحساب المواطن أو الدعم السكني وغير ذلك من الترهات والتفاهات محاولة إخفاء حقيقة أهداف عملية إحصاء التعداد السكاني وما يترتب عليه من إيجابيات للفرد والمجتمع. المدهش أن محاولات نشر الشائعات تزايدت خلال الفترة القليلة الماضية، حيث ظهرت مثلا عندما تم دمج المؤسسة العامة للتقاعد بالمؤسسة العامة للتأمينات، لتحقيق كفاءة الإنفاق وتقليل المصاريف الإدارية واختصار الوقت والجهد على المراجعين، وغير ذلك من المكاسب العديدة، إلا أن أعداء الحقيقة بدؤوا في ممارسة هوايتهم وتخويف المتقاعدين من تأخير صرف مستحقاتهم وحدوث أخطاء في بياناتهم إلى غير ذلك مما اتضح بعد فترة قليلة عدم صحته، بل إن العكس هو الذي حدث حيث بات المتقاعد يتمتع بخدمة أفضل في زمن أقل. رغم ذلك عاد الأفاكون إلى غيهم القديم مع ارتفاع نسبة تحصين المواطنين والمقيمين بلقاح كورونا، والذي انعكس في تحجيم عدد الحالات الحرجة وسط المصابين، وارتفاع قدرة المستشفيات والمراكز الصحية على التعامل مع الوضع، ومع ذلك لم يجد مروجو الإشاعات حرجًا في محاولة تخويف الناس من اللقاح والزعم بأنه سيكون سببًا في الوفاة بعد سنوات قلائل، وهي أقوال أرى أنها لا تستحق حتى مجرد الرد عليها. الآن تتأهب الدولة لإطلاق التعداد السكاني للحصول على معلومات ديموغرافية واقتصادية واجتماعية تشكل أساسًا لعملية التخطيط السليم، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار الأهمية المتزايدة التي تكتسبها المعلومة في الوقت الحالي، حتى أصبحت أحد أبرز العناصر الضرورية لتشكيل الخطط التنموية ورسم مفردات المستقبل، لأن الربط الصحيح بين تلك المعلومات هو الذي يوضح الطريق أمام رجال الاقتصاد والتخطيط لتحديد المداخل التي تقود نحو النهضة والازدهار. كذلك لا ينبغي أن نتجاهل أن التعداد السكاني لا يعنى فقط بحصر أعداد السكان، بل يهتم أيضًا بتحديد أعداد المدارس والجامعات والمستشفيات والمساجد والمرافق الخدمية المتوفرة في جميع مناطق المملكة، بحيث يتم تحديد حاجتها لمرافق إضافية أم لا. كذلك من مهمة موظفي التعداد حصر الذين يقطنون في مساكن مملوكة أو مستأجرة، وذلك لتحديد مدى الحاجة إلى زيادة الخطط الإسكانية، ومن هنا يستمد التعداد أهميته البالغة. التصدي لتلك الظاهرة الهدامة يمر عبر تمليك الحقائق للمواطنين، واتباع أسلوب المكاشفة. وبما أننا نعيش عصر المعلومات فإن الدوائر الحكومية والمؤسسات والوزارات مطالبة بتفعيل إداراتها الإعلامية وتدريب متحدثيها الرسميين كي يكونوا أكثر قدرة على تمليك المعلومات الصحيحة لوسائل الإعلام وفي الوقت المناسب، والإقلاع عن العادة السالبة بالتهرب من الصحفيين والإصرار على جملة لا تعليق للرد على الأسئلة، فهذا الأسلوب لم يعد مجديًا. هؤلاء المتحدثون يتحملون، بالاشتراك مع موظفي العلاقات العامة، مسؤولية تنوير المواطنين والمراجعين ووسائل الإعلام بالمعلومات الحقيقية التي لا تترك مجالا للتأويلات الخاطئة، ولا تمنح فرصة الترويج للإشاعات والأكاذيب، فإذا كانت المعلومة الصحيحة متاحة للمواطن بما يشبع نهمه ويجيب على استفساراته ويلبي حاجته فإنه قطعًا لن يمنح أذنه المرجفين ومروجي الإشاعات الذين لا يعيشون إلا في أجواء الجهل وغياب المعلومة.