تسببت تداعيات عولمة الثورة الصناعية والرقمية، والحضور الدائم في فضائها الصاخب، والانشغال المستمر في متابعة مستجداتها، والهوس الزائد في تلقف تطبيقاتها، وتبني مصطلحاتها، والتفاعل المتواصل مع ما يتداول في فضائها المفتوح في كل الاتجاهات، من ثقافات، وأفكار وقيم وافدة، باستهلاك الوقت المتاح لإنساننا المعاصر، واستنزاف طاقته الوجدانية، الروحية منها، والتأملية. وقد تجسدت هذه التداعيات بعزلة اجتماعية مقرفة، سواء على مستوى الأسرة والأقارب، أو على مستوى الجيران، والمجتمع، وما نجم عنها من انفصام أسرى، وتفكك اجتماعي مقلق، حتى كادت تختفي في مجتمع اليوم، ظاهرة ترادف الأجيال، بانحسار التواصل الاجتماعي الحي، وغياب دفء الحس العاطفي معه، ناهيك عن تبني كثير من المفاهيم والمصطلحات والترندات، التي تعج بها ساحة الفضاء الرقمي، والفضائيات، ووسائل الإعلام المعاصرة، الأمر الذي أمكن تلمسه في تشويش واضح لمرتكزات أصالة الهوية، بعد أن طالت العولمة، بآثار الكثير من تداعياتها السلبية، صميم حياتنا اليومية الراهنة، والثقافية، والمعرفية منها، بشكل مباشر، حيث انسلاخ الجيل الجديد، عن كثير من العادات والتقاليد تدريجياً، والانزياح في نفس الوقت عن الموروث الاجتماعي، بتبني مفاهيم ثقافة العولمة، بعد أن تفاقمت فجوة الجيل، وغابت ظاهرة الترادف التقليدي بين الأجيال، مع الغزو الصاخب للعصرنة، الأمر الذي بات يهدد بتفكك البنى القيمية، والاجتماعية، والدينية، وبما قد يقود إلى ضياع الأجيال، واستلاب معالم الهوية التراثية، في قادم الأيام. وإذا كان لا بد من العمل على إعادة ترشيد ثقافة واقع الحال الراهن، المثقلة بكل آثار سلبيات هذه التداعيات، وإعادة تشكيلها بما يتلاءم مع معايير التحديث، والعصرنة، حتى يمكننا التعايش بتوازن مع معطياتها، والتكيف مع إنجازاتها المتسارعة، بأقل ضرر يلحق بأصالة هوية وجودنا الاجتماعي، وموروثنا الشعبي، فإن ذلك ينبغي أن يتم في إطار الحرص الواعي من الجميع، على الحفاظ على جذور أصالة هوية الموروث الحضاري لمجتمعنا، وعدم التفريط بها، مهما كانت ضغوط إغراءات الحداثة جذابة، ومهما كانت مستجداتها براقة. لذلك بات الأمر يتطلب الانتباه الجدي، إلى مفاعيل سلبيات تداعيات العصرنة المتسارعة، التي طالت عواقبها كل جوانب حياتنا الراهنة، من عزلة اجتماعية، وانغماس مقرف في تفاصيلها، وانزياح عن موروثنا الديني، والحضاري، والتراثي، ومن دون إغفال حقيقة كون هيمنة الثورة التقنية والرقمية، والفضائيات، قد أصبحت اليوم، سمة عولمة عصر، وثقافة واقع حال راهن، وبالتالي فإنه لا مناص من التفاعل الخلاق، والتعايش البناء معها، على قاعدة الانتفاع من كل ما هو مفيد وإيجابي منها، ونبذ ما هو ضار، بهويتنا وثقافتنا، وموروثنا، من دون الانغماس الآلي فيها، والانصهار في تيارها الجارف وبالشكل الذي يؤدي إلى الضياع والاستلاب، ومن دون تركها، والانسحاب منها كليا، وذلك بالشكل الذي يضمن الحفاظ على معالم الهوية التراثية، وأصالتها، ويعزز تواصل الجيل الجديد من الناشئة، مع موروثه الديني والاجتماعي، والثقافي، وهو يعيش، في الوقت ذاته، تفاصيل مفردات حياة الحداثة، التي باتت تداعياتها تتسارع بشكل صاخب، ومذهل.