قد يكون الاختلاف الراهن بداية افتراق بين جماعة ميشال عون وحزب إيران، وقد لا يكون إزاء ما يحصل بينهما هو الطبيعي، وما حصل منذ خمسة عشر عاما وسمي تفاهما، ليس كذلك. خلاف في وجهات نظر إزاء عناوين سياسية حارة، تطور ويتطور إلى اختلاف، ثم قد يذهب إلى افتراق ثم خناق ثم اختناق وصولا إلى تثبيت خلاصة تقول بإن عقد زواج المتعة آيل إلى الانتهاء ! وإن كل طرف عائد إلى «بيته» وأصوله وقناعاته الأولى والصافية بعد أن أخذ ما يريد واكتفى! «التفاهم» الذي أعلن في كنيسة مار مخايل في شهر شباط (فبراير) عام 2006 بين الطرفين، كان ولا يزال صفقة سياسية نظمت تبادل خدمات أكثر من كونه أي شيء آخر...هو تفاهم بين نقيضين لا يلتقيان سوى بالخصال الانتهازية: ميشال عون أراد الوصول إلى الرئاسة وتغيير اصطفافه «الطبيعي» في سبيل هدفه. وحزب إيران أراد غطاء مسيحيا لدوره وسلاحه أولا وأساسًا..ثم أراد لجم هجمة السياديين في 14 آذار وكسر موجتهم العالية التي أنهت عصر الوصاية الأسدية وأظهرت حسّا وطنيا عابرا فوق المذاهب والطوائف. والطرفان نجحا في ذلك..أخذ عون جمهوره إلى المستحيل ولم يرفّ له جفن، بدءا من قبوله تغطية سلاح غير سلاح الدولة (وأي سلاح!؟) ثم شروعه في بلع تاريخه التعبوي عن الحزب نفسه وعن عقيدته الدينية وارتباطه الإيراني، ثم انتقاله دفعة واحدة إلى مدافع تارة ومتفهم طورا، لما يحمله ذلك الحزب في يده وعقله على حد سواء ... وذلك الحمل لا يتناقض مع كل ما اعتنقه عون على مدى تاريخه المعروف فقط، بل يتناقض بالشكل والمضمون مع «كل» الجمهورية وجلّ أهلها! إضافة إلى كونه جزءا من مشروع خارجي خطير بكل معانيه ومندرجاته وتطبيقاته: سياسيا وأمنيا وثقافيا واجتماعيا، عدا عن أنه تهديد غير مسبوق لعلاقات لبنان عربيا ودوليا مثلما يتبين هذه الأيام بالتمام والكمال! لم يتوقف عون عند أي شأن أو جزء من ذلك المشروع الذي يعبر عنه «حزب الله» طالما أن الهدف الوصولي الأول له صار ممكنا وخصوصا أنه عبر آلية آنذاك من بوابة سورية، وهذه عند عون وأتباعه كانت السبب الوحيد لكل النكسات والكوارث التي أصابتهم وأصابت لبنان..ومركز التهديد الفعلي للكيان الوطني والسيادة الترابية والحدود الدولية والنظامية ودور الدولة ومؤسساتها الشرعية والدستورية ...كانت سورية الأسدية في البيان التعبوي العوني، تهديدا وجوديا تاما وليس أقل من ذلك! وبرغم هذا ذهب عون إلى «تفاهم» غير معلن مع تلك السورية قبل أن يصل إلى التفاهم المعلن مع وريثها ذي الارتباط الإيراني في لبنان! أخذ منها ومن حزب إيران ما أراد، لكنه لم يكتف بذلك مثلما يتبين راهنا بل يفترض أن ديونه المستحقة لم تدفع له كاملة بعد! وأن الدفعة الجديدة المستحقة يجب أن تسدد لوريثه وصهره جبران باسيل! الصورة عند الجانب الآخر من تفاهم مار مخايل كانت شبيهة في عناوينها الانتهازية وبعدها عن الطبيعي والمنطقي: حزب إيران قفز فوق بيانه التأسيسي وأدلجته الإسلاموية وإرثه التعبوي الحاد في تعبيراته وسلوكياته، والتقط «فرصة» ميشال عون! فأخذها بحرارة! واستغلها بشطارة! وفي هذا استعان على سعيه، بعلم النفس كما بضروب ميكافيلية وبراغماتية هي من حيث المبدأ، يفترض أن تكون خارج أدبياته الفقهية والاجتهادية! وضع على الرف هدف الوصول إلى دولة إسلامية تكون جزءا من جمهورية أشمل وأوسع يقودها الولي الفقيه من طهران، مثلما تناسى لغوياته عن «الحالة الإسرائيلية»...مثلما تغاضى عن كل أداء ميشال عون في سنوات المنفى ووصوله إلى الكونغرس الأمريكي وجهوده الدؤوبة «لتوعية» الغرب عموما والأمريكيين خصوصا بخطورة وصول سلاح إيران إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط! ...وللمرة الأولى وربما الأخيرة، تصرف «حزب الله» كحزب سياسي عادي: يساوم ويهادن ويبيع ويشتري ويناور تحت سقف الضرورات التي تبيح المحظورات! ونجح في سعيه! وأخذ من عون أكثر مما أعطاه. وفي الواقع فإن الحزب أخذ غطاء مسيحيا مهما بداية، ثم غطاء شرعيا أكثر أهمية في مقابل ثمن لم يدفعه من كيسه بل من كيس كل اللبنانيين! وليس فتحا في التحليل الافتراض، بأن ذلك الحزب استفاد من خبرة السوريين وبعض أتباعهم في لبنان للوصول إلى الكمال في عمليته النوعية مع الحالة العونية. زواج المتعة يترنح هذه الأيام. وليس في أسباب ذلك الترنح ما يشير إلى مجرد مناورات يجريها الجانب العوني من أجل العودة إلى رفع أسهمه المنهارة عند المسيحيين (وعموم اللبنانيين) بل يبدو أن الخطب جلل! عون يريد شيئين كبيرين شبه مستحيلين من حزب إيران: الأول رعاية مسار الصهر باسيل إلى الوراثة الرئاسية والثاني الشروع في الانفكاك عن ثاني التركيبة الشيعية، أي حركة «أمل» ورئيسها نبيه بري، لكن ليس من أجل تصفية حسابات كيدية قديمة معه فقط بل من أجل تمهيد الطريق إلى الهدف الرئاسي الأول استنادا إلى فرضية مؤداها أن كسر الحلقة الحديدية التي تربط الثنائي الشيعي هو في الواقع كسر لكل المواقع التي تهدد المشروع الباسيلي في الجانب المسيحي الماروني باعتبار أن الرئيس بري هو، وليس حزب إيران، السدّ الذي يمنع مياه الوريث العوني من الوصول إلى مصبها الأخير في قصر بعبدا من خلال «حمايته» لكل من يستهدفهم، ذلك الطامح الجامح إلى الوراثة، إضافة إلى موقفه الأصلي المضاد بعنف وتاريخيا للحالة العونية. لكن السعي العوني الباسيلي ذاك، الذي يستند في بعض تخرصاته إلى دعم من بشار الأسد (!) لا يفعل في الواقع سوى إدانة نفسه بنفسه من خلال «تذكير» حزب إيران بأنه حالة غير مقبولة في لبنان! وغير مقبولة أساسا عند المسيحيين! وإن تفاهم مارمخايل كان مخالفا للمزاج المسيحي أصلا! وأن التخلص منه الآن صار جواز مرور للمكان الآمن مسيحيا ولبنانيا (وعربيا ودوليا) وأن تجنب ذلك الضنى ممكن إذا وصلت التركة العونية إلى وريثها الشرعي..لكن اليوم ليس الأمس! وحتى لو أراد حزب إيران أن يتصرف وفق عادته ويضع مصلحته ومصلحة رعاته فوق كل شيء، فهو لن يستطيع أن يعطي عون وصهره ما يريدانه! عدا عن أنه غير مستعد لفتح حرب أهلية شيعية من أجل إرضائهما! ويضاف إلى ذلك أن كيس اللبنانيين الذي غرف منه ليدفع ثمن حساباته وسياساته صار فارغا تماما..والمفاوضات الدولية مع إيران تتصل بمصير إيران نفسها قدر اتصالها بأبعادها الخارجية..بمعنى أن رفع العقوبات عنها لن يكون في مقابل عودتها إلى الاتفاق النووي فقط بل عودتها إلى «التنفس» ماليا واقتصاديا وابتعادها بالتالي عن احتمال مواجهتها تحركات داخلية جدّية للغاية! وهذا في حال نجاح المفاوضات في فيينا! في حين أن فشلها سيفتح احتمالات مواجهات غير مسبوقة خارجيا... وفي الحالتين فإن سقف التفاوض اليوم أدنى من ذلك الذي كان في أيام سيئ السمعة والصيت باراك أوباما! وأكثر من ذلك: حتى لو نجحت مفاوضات فيينا، فإن تبعاتها المحلية لن تصل إلى حد قبول أي طرف محلي أو إقليمي باستمرار الحالة العونية في بعبدا!! والعقوبات الأمريكية على مسيو باسيل تحديدا وشخصيا لا يمكن اعتبارها عاملا مساعدا له في طموحه السياسي، بل في حياته السياسية بجملتها! المشكلة بين طرفي ذلك التفاهم المترنح ستكبر ولن تصغر..نجحا سابقا، كلٌ في حساباته وغاياته الذاتية، لكن البلد طار برمّته ويكاد أن يندثر، وهما في هذا السياق وليس خارجه، وسيدفعان معا أثمانا خاصة لذلك الفشل العام، سوى أنهما لن يقطعا الخيط الباقي بينهما، أقلّه إلى ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة..مبدئيا!. * ينشر بالتزامن مع موقع «لبنان الكبير».