لست أدري كيف سأخبر نفسي عن نفسي، فمن يضمن لي بأن رواية الحقيقة قد توقف قصة الألم، ومن سيقلب يقيني بأن حياتنا ليست سوى مجرد كلمات تترادف إلى حد الضجيج، نمضغها ونبتلعها ونشترّها بلا هوادة، نقرأها من ماضٍ بقيت كلماته تتشبث ببعض حجارته خوفًا من الرحيل، ونتلاسنها الآن فيما بيننا ربما لعيش حلمٍ زائف، أو لغاية الولوج إلى ملجأ يبعدنا عن إدراك الخوف، ثم نتركها مجبرين ونحن نتوهم الخلود بها. لست أدري إن كانت تلك الحروف المتراصّة مجدية للتخفيف عن عمرنا التائه، أم أنها قد فقدت معناها ومغزاها شئنا أم أبينا، لدرجة أن الأشياء الجميلة التي تملّكتنا الخشية بأن لا تتكرر، تكاد لا تعنينا ونحن نستعد للرحيل. كم مرة أغرانا الشوق المجنون نحو البدايات، وأطبق الفضول الجامح على أهوائنا، وتناسينا رؤية الضوء المهدور في أرواحنا بحجة الطموح، وأغمضنا العيون عن النصف المبتور في آمالنا بحجة الرضى، وعشقنا يومنا، وانتظرنا غدنا بمنتهى البراءة، ثم تُسدل تلك الستائر الصامتة فوق مسرح النهايات، وكل ما يبقى منها لغيرنا مجرد أشباه ذكريات.. أما المشاعر فتولد معنا وتدركنا قبل أن ندركها.. تبدأ بسُمك شعرة ليّنة، ديدنها الطفولة الرابضة على ثرى الخوف والضعف، ثم تأخذ أشكالها وتكتسي بألوانها، وترفرف فينا وحولنا ما أن لمسنا مقبض ذلك الباب، وما أن رقصنا تحت كلّ السحاب، لا شيء يهزّنا، ولا كآبة تثنينا، فنحن غارقون في نشوة الشباب.. كل مقام لنا نحسبه عنوانا، وكل فورة فينا نظنها بركانا، وبعدها تبدأ قطرات أرواحنا بالتساقط دون أن نراها، ننشد حينها الراحة ونبتسم فيها لأول قطعةٍ من النسيان، ويتعاظم الحزن ونحن نفقد مزيدا من الأحبة، وتزداد الكآبة ونحن نودع مزيدا من الغايات، ندّعي الذكاء ونحن ننشد الحيلة لتجميل تلك اللوحة الباهتة، ثم تغمرنا الخيبة ويجافينا الأمل. فأيادينا المرتعشة لم تعد تقوى على الإمساك بريشة رسام صغير، وآذاننا القديمة بالكاد تطربها بعض بقايا الألحان، لا نعرف حينها هل تعبت القلوب أم هل آن الأوان! لا أدري لماذا تطيل دواخلنا المكوث على أرصفة محطات العمر أكثر مما يجب، فتتأخر عمدا عن مواكبة تلك العربات عديمة الكوابح. فمن منا تجرأ على تقديم وردة في حينها بدل الهرولة لتقديم كل ما يملك بعد فوات الأوان، ومن منا عقد العزم على إحياء كلمة جميلة بدل محاولةٍ عابثةٍ لبثّ الروح في قصيدة خُلقت بعد فناء المشاعر واحتضار الشاعر.. ومن منا استبدل سباق المكان ومناكفة الزمان بحقيقةٍ مفادها أننا عابرون. ثم من منا سيأسر الفضيلة بين القلب والضلوع، وهو يعلم أنّ لا فرصة تتجدد ولا رجوع، ومن منا سيعرف مبكراً أن إيقاد الشموع لاحقاً قد لا يمسح الدموع. مسكين دستويفسكي فقد رحل وهو يردد «الزهور التي ستحضرها عند زيارتك لقبري لا داع لها، ولا داعي أن تبكي فوق رأسي، أعطي درهما لحارس المقبرة»، فكل ما فينا يشغلنا حتى عن فهم أنفسنا، وخلاصة أحلامنا لا تنفكّ عن مراوغة لذة أوهامنا، وفي النهاية نأتي متأخرين، كقُبلة اعتذارٍ على جبينِ ميت!.