جميعنا نمارس «التلاعب النفسي»، حيث إن هناك نظرية سادت منذ ثمانينيات القرن الماضي، وافترضت أننا جميعا نمارس أنواعا من «التلاعب العاطفي النفسي»، لنحقق أغراضا نستهدفها، وهو ما يسميه بعض المختصين النفسيين «الاحتيال النفسي». ويبدو التلاعب النفسي أو العاطفي جليا حين يمارسه الطفل على والديه بالصراخ، ليحصل على الطعام، وربما يمارسه الآباء تجاه الأبناء بوعدهم بمكافأة، لتحفيزهم على فعل معين، ويلجأ إليه العشاق للحصول على مزيد من الحب، ثم تتسع الدائرة، لتشمل تعرضنا للإعلان وتعاملنا بالسياسة وتتبعنا للإعلام، وقد يكون المتلاعبون النفسيون هنا سياسيين وفنانين ومثقفين، وحتى رجال دين، يمارسون التضليل في عملية تضليل بالغة التعقيد. قد قال نيكولو مكيافيلي في كتابه «الأمير»: «طالما يُسمح بالاحتيال أو الخيانة فلا بأس من التخلي عن الفضائل مثل الصدق، حتى يتحقق الهدف المنشود»، وهذا ما يمارسه البعض، ليستحق فعلا وصف «الاحتيال». وأمام هذا الكم الكبير من التلاعب الذي نتعرض له جميعا، يبدو مهما أن نعرف كيف نتعرف على «التلاعب النفسي»، وكيف نتعامل معه. سلوك ادعائي يقول الأخصائي النفسي العيادي الجنائي في مجمع إرادة والصحة النفسية في الرياض، الدكتور عبدالله بن أحمد الوايلي: «موضوع الاحتيال النفسي مهم جدا، وهو عبارة عن سلوك سلبي «ادعائي»، تعززه مظاهر خارجية مزيفة وكاذبة، ويمارسه المحتال، سواءً كان ذكرا أو أُنثى، وأيّا كانت مكانته الاجتماعية، حتى يستولي عبره على حقوق الآخرين، سواء كانت مادية أو عينية أو حتى معنوية، فهو نوع من التلاعب النفسي ذي التأثير الاجتماعي المباشر وغير المباشر، يهدف إلى تغيير نظرة أو سلوك الآخرين من خلال استخدام تكتيكات سلبية خفية». ويعدد الدكتور الوايلي صور الاحتيال النفسي، إذ يوضح: «هي كثيرة جدا، ومتعددة ومختلفة ومتداخلة فيما بينها أيضا، منها ادعاء شخص ما أنه مريض، للتغيب عن المدرسة أو العمل أو حضور مناسبة أو غيرها، أو إدعاؤه أنه ألّف كتابا علميا أو مهنيا، وهو للأسف قد أخذه من شخص آخر، وكذلك عندما يطرح موظف «ما» فكرة على مديره المباشر، ويستعرضها أمامه بشكل كامل، إلا أن مديره الفاشل يسلبه حقه، ويقدمها للآخرين على أنها فكرته، أو أن يتعامل طالب الدراسات العليا مع خدمات طالب الحصول على رسالة ماجستير أو دكتوراه مقابل مبلغ مالي، ثم يسلم الأخير الرسالة جاهزة على أنه أعدها بكل ما فيها من جهد». أصحاب الياقات البيضاء يبّين الدكتور الوايلي: «يمارس كثير من الناس الاحتيال النفسي والاجتماعي إما بوعي أو غير وعي، خاصة من يدّعون المظلومية دون تأنٍ. ومن هذا المنطلق، فإن الاحتيال يبنى على «مثلث» هرمي: 1- الكذب والخداع والتلفيق. 2- المظهر الخارجي (الشكل). 3- التركيز على شيء بعينه. والمحتال هو المنتحل لدور شخص «ما»، اسما وهوية، من أجل خداع الآخرين بقصد الاستيلاء على ما للغير دون وجه حق. وفي علم النفس الجنائي، غالبا ما يكون المحتال من أصحاب «الياقات البيضاء»، وهم الذين قال «إدوين سذرلاند» عن جرائمهم إنها «جرائم يقوم بها شخص قابل للاحترام، وذو منزلة اجتماعية عُليا، من خلال ممارسته نشاطا مهنيا»، (أي شخص يستغل سلطته الإدارية). ويُقصد بجرائم أصحاب «الياقات البيضاء» تلك الجرائم المنصوص عليها في القانون تحت بند «المخالفات الجزائية»، التي تأخذ طابعا اقتصاديا أو مهنيا، بحيث يرتكبها المسؤول صاحب السلطة الإدارية، مستغلا منصبه الإداري ونفوذه كمدير المنشأة أو المؤسسة أو الإدارة في تحقيق أهدافه غير المشروعة بطرق مشروعة، فمن حقه أن يصدر قرارا، ولكن ليس من حقه تزوير تقرير، وكذلك من حقه أن يصبح تاجرا، ولكن ليس من حقه استغلال منصبه ومكانته المهنية في توسيع تجارته. تزوير الحقائق يُكمل الدكتور الوايلي: «تزوير الحقائق جزء رئيس من عملية الاحتيال، والعلاقة بينهما طردية، مما يحتم وجودهما معا، سواءً للتزوير المادي الذي يعتمد على تغيير الحقيقة بطريقة مادية، تترك أثرا يمكن ملاحظته وإدراكه بالبصر، أو التزوير المعنوي الذي يقود إلى تغيير الحقيقة في معنى المحرر لا في مادته. وللمحتال أوجه عدة يستخدمها أمام فريسته، أي الضحية، مثل الادعاء والدهاء والتلفيق والمكر وانتحال الشخصية والتمثيل. لذا، فإن للمحتال سمات شخصية عدة، يحدد ويختار من خلالها ضحيته، لأنه يتمتع بالذكاء الحاد والدهاء، والقدرة على التجديد والابتكار والتمثيل البارع، والفصاحة والتلون الدائم، حسب الحاجة، بالإضافة إلى الجرأة والوقاحة والهدوء والتخطيط، وكذلك انتهاز الفرص، ومن ثم الاستعراض والمباهاة والحركة الدائمة، في ظل عدم الضمير وعدم الإحساس بالندم». ويتابع: «نتيجة تلك السمات الشخصية، لا بد أن أُشير إلى أن الصورة النمطية لدى معظم الناس أن التركيبة النفسية للمحتال هي أنه شخص شديد الذكاء والمكر والدهاء والخيانة، وعديم الخلق والضمير، وقد يكون الأمر كذلك في بعض الحالات، إلا أن القراءة العلمية لحوادث النصب والاحتيال تثبت أن لكل محتال تركيبته ودوافعه وظروفه. لذا يحسن بنا أن نرى تلك التركيبة النفسية في مظاهرها وانعكاساتها المختلفة، لكي نحيط بكل الجوانب التي يتميز بها المحتالون كحالات متفردة، فهم مختلفون، وقد نجد بعض الصفات بطرق وأهداف مختلفة في شخصية كل محتال، إلا أنهم جميعا يتسمون بالكذب، وهي صفة محورية وأساسية لديهم. كما أن المراوغة والخداع والتضليل تعد صفات ثانوية تنشأ عن الصفة الأساسية، وهي الكذب. ولا جرم من القول إن المحتال مهما فعل ومهما نجح في كذبه وخداعه، فإنه في حقيقته يعيش تحت الضغط النفسي، حيث لا يشعر بالأمن النفسي والاستقرار، كما يظن، بل يصبح في قلق وتوتر دائم، خوفا من عواقب سلوكياته تجاه الآخرين، خاصة إذا كان ضعيف الشخصية». وختم الدكتور الوايلي بأن «المحتال يتسم بدافع التملك، وهو من أقوى الدوافع النفسية، لأنه أمر بديهي وحتمي في حياة البشر، خاصة في وقتنا الحاضر الذي هو عصر المال والقلق الذي تتركز عليه الصراعات الإنسانية. كما أن الاحتيال قد يتمثل في الوسواس والتحريض والإغواء، أي التحايل بادعاء المعرفة والكذب والخداع والتدليس». علامات التلاعب النفسي ثمة علامات عدة تدل على التلاعب النفسي والاحتيال، منها قلب الحقائق، فالمحتالون يمكنهم قلب الحقيقة بمهارة، وحجب الحقائق المهمة وإظهار غيرها. كما يمارس المحتالون الاضطهاد الفكري، حيث يطرحون حججا تحتوي على معلومات وحقائق ومنطق ملتوٍ، ويرهقون الضحية التي تقتنع بأنهم على حق. كما قد يوجهون الإنذارات، ويحشرون الضحية في قليل من الوقت، للتفكير فيها، ويشعرونهم بأنهم عالقون في أزمة، وربما يستخدمون السخرية في التقليل من شأن الضحية، وفرض التفوق عليها. كما قد يلجأون للصمت أو السلوك المراوغ، أو حتى يتظاهرون بالجهل، وعدم فهم ما ترمي إليه الضحية، لإيهامها أنها ترى الأمور بصورة معقدة، أو قد يلجأون إلى تقديم حججهم أولا بحيث يضعون الضحية في موضع الدفاع، ليكتشفوا من خلاله نقاط ضعفها. خطر إنساني يصف المهتم بالشؤون الإدارية والقانونية عبدالعزيز عيضة الزهراني «الاحتيال»، وعلى الأخص ذاك الذي يمارس في إطار الوظيفة العامة، بأنه «خطر إنساني كامن، ويعد أحد أكثر التحديات شيوعا أمام الحوكمة التي تواجهها المنشآت، بغض النظر عن حجمها، أو القطاع الذي تعمل فيه أو موقعها». ويبّين «مصطلح الاحتيال يشمل مجموعة من الأنشطة والممارسات، وأهمها احتيال الممتلكات، سواءً كانت سرقة أو إساءة استخدام الأصول، وأحيانا المعلومات ذات الصلة، وكذلك احتيال التبليغات المالية، والتلاعب في المعلومات، لتضليل أو خداع أصحاب المصلحة». ويضيف «الزهراني»: «لعل وجود المعايير القانونية والإجراءات الرقابية الداخلية السليمة يقود إلى وضع الإستراتيجية المناسبة لعملية مكافحة الاحتيال بأنواعه، علما بأن التدقيق الداخلي دائما ما يتمتع بمعرفة وثيقة بالرقابة في المنشأة أو المؤسسة المعنية، لأن المنهج الموحد يؤكد وسيلة مهمة في هذا الشأن، وهو فهم الثغرات الموجودة في الضوابط. ولأن «الاحتيال» بشكل عام يفضي إلى إلحاق الضرر بالآخر، فإنه من الأفضل أن يقوم بعملية التحقيق فيه الشخص الخبير الذي يستطيع الإلمام بالقضايا، وبالتالي تأدية المهام المناطة به على أكمل وجه». ويوصي «الزهراني»، في إطار حديثه عن «الاحتيال النفسي» في الإدارات والمنشآت والمؤسسات الحكومية والأهلية، أن «يتم إدراج التدقيق الداخلي للاحتيال ضمن المخاطر التي يتم تقييمها، وضمن خطة التدقيق العامة، وأن تضع المؤسسة نظاما للتحقيق في الممارسات التي تبدو أنها احتيال، بالإضافة إلى أن تشمل العملية أفرادا من ذوي الخبرة في مجال القانون والموارد البشرية، لضمان احترام حقوق وخصوصية الأفراد». علامات «التلاعب النفسي» قلب الحقائق إيهام الضحية بأنه يستحيل التفاهم أو الحديث معها الاضطهاد الفكري إنذار الضحية وحصرها في الوقت السخرية والفكاهة والتندر الصمت والسلوك المراوغ التظاهر بالجهل تقديم الحجج أولا آليات ضد «التلاعب النفسي» التشكيك في المعلومات لا تقبل أي معلومة ببساطة وتسليم، بل دقق فيها واتبع التفكير الناقد تحقق من غايتك فكر فيما تتخذه من قرارات، هل كانت نابعة منك أم اقترحت عليك؟ تجنب التصرف تحت وطأة الإحساس بالذنب غالبا ما يدفع الإحساس بالذنب لاتخاذ قرار فيه فخ لك، فتجنب هذا الإحساس هاجم المتلاعب ولا تنشغل بالدفاع ليس عليك إرضاء الآخر، فلا تعطيه حق التأثير عليك تجنب الاستجابة لجاذبية الآخر قد يلجأ المحتال لمدحك، فلا تتخذ قرارا كصدى لهذا المدح